والرازي المدقق يقول : "قوله ثلاثة خبر مبتدأ محذوف. ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدأ علي وجوه : (الأول) ما ذكرناه أي ولا تقولوا : "الأقانيم ثلاثة"، (الثاني) آلهتنا ثلاثة كما قال الزجاج مستشهداً بآية المائدة، (الثالث) قال الفراء : "هم ثلاثة" كقوله "سيقولون ثلاثة" وذلك لأن ذكر عيسي ومريم مع الله بهذه العبارة يوهم كونهما إلهين". ثم يفسر رأيه "الأقانيم ثلاثة" : أي والمعني ولا تقولوا "إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم"، واعلم أن مذهب النصاري مجهول جداً، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات ثلاث، إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها (!) فلهذا المعني قال "ولا تقولوا : "ثلاثة، انتهوا". فأما إن حملنا الثلاثة علي أنهم يثبتون صفات ثلاثاً فهذا لا يمكن إنكاره، وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول : هو الله الملك القدوس العالم الحي القادر .. ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر، ولا معني لتعدد الصفات إلا ذلك. فلو كان القول بتعدد الصفات كفر لزم رد جميع القرآن، ولزم رد العقل من حيث أنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالي عالماً غير المفهوم من قوله حياً".
وإنا لنستغرب قول الرازي "إن مذهب النصاري مجهول جداً"، وقد عرفه تمام المعرفة "إن الله واحد بالجوهر ثلاثة أقانيم" وأنهم أي النصاري "أثبتوا، علي قوله، ذاتاً موصوفة بصفات ثلاث". وفي كلا القولين ليس من تعدد ينقض التوحيد. ولكن ضل عندما أراد أن يطبق مذهبهم علي مقالة القرآن القائلة "بثلاثة آلهة" فاستنتج منه "أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها "!! كلا ليست" الأقانيم الثلاثة ذوات قائمة بأنفسها مما يشعر بأنها ثلاثة آلهة، بل هي علاقات ذاتية قائمة بالذات الإلهية الواحدة، وقد أشعر هو نفسه أن ذلك ممكن حيث قال : "فأما إن حملنا الثلاثة علي أنهم يثبتون صفات ثلاثاً فهذا لا يمكن إنكاره ... فلو كان القول بتعدد الصفات كفر لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالي عالماً غير المفهوم من قوله حياً"، وبهذه المقالة يلتحق بالزمخشري والبيضاوي حيث يصف مذهب النصاري أنه : "جوهر واحد، ثلاثة أقانيم : أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بأقنوم الآب الذات وبأقنوم الابن العلم وبأقنوم روح القدس الحياة". وما كان ضرهم لو قالوا بقول النصاري وإنجيلهم القائم علي توحيد الجوهر الإلهي الفرد : فالله واحد في ثلاثة أقانيم أي علاقات جوهرية غير قائمة بأنفسها بل قائمة في الذات الإلهية الواحدة ؟