ثالثًا - العهد القديم والسحر:
هذه الظاهرة العالمية، لابد كان لها أثرها على بني إسرائيل. والعهد القديم واضح كل الوضوح في النهي عن كل صور السحر. وهناك نهي بالغ القوة في هذا الصدد: "متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم. لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار، ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر، ولا من يرقي رقية، ولا من يسأل جانًا أو تابعة، ولا من يستشير الموتى، لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب.." (تث 18: 9-14، انظر أيضًا لا 19: 26). وتكاد هذه العبارة تضم كل أنواع السحر.
وكان الإسرائيلي يتعلم منذ صباه أن يتجنب الكثير من الممارسات الدينية التي تؤديها الشعوب حوله، واعتبارها خرافات خطيرة، لا يمكن أن توجد جنبًا إلى جنب مع عبادة "يهوه". وكانت عقوبة السحر القتل رجمًا: "لا تدع ساحرة تعيش" (خر22: 18) "وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يُقتل. بالحجارة يرجمونه. دمه عليه" (لا20: 27). ونجد نفس هذا الموقف في الأنبياء، فمثلًا: "وإذا قالوا لكم: اطلبوا إلى أصحاب التوابع والعرافين المشقشقين والهامسين. ألا يسأل شعب إلهه؟ أيسأل الموتى لأجل الأحياء؟" (إش8: 19)، "فلا تسمعوا أنتم لأنبيائكم وعرَّا فيكم وحالميكم وعائفيكم الذين يكلمونكم.. لأنهم إنما يتنبأون لكم بالكذب" (إرميا27: 9 و10). "وأنت يا ابن آدم، فاجعل وجهك ضد بنات شعبك اللواتي يتنبأن من تلقاء ذواتهن، وتنبأ عليهن وقل: هكذا قال السيد الرب: ويل للواتي يخطن وسائد لكل أوصال الأيدي، وتصنعن مخدات (أو أقنعة) لكل قامة لاصطياد النفوس" (حز13: 18). وبذلك كن يذهبن إلى أبعد مما جاء في نبوة ميخا من: "الأنبياء الذين يضلون شعبي الذين ينهشون بأسنانهم وينادون سلام. والذي لا يجعل في أفواههم شيئًا يفتحون عليه حربًا" (ميخا3: 5) فكانوا يتنبأون بالخير أو بالشر حسب استعداد السائل للدفع. ويبدو أن الوسائد والمخدات، كان يلبسها السحرة أنفسهم (العددان 20 و21) والعملاء (عدد 18) ولعل الساحرة (أو الساحر) كانت تصنع هذه المخدات (أو الأقنعة) لتمثل الخصم، على شكل دمي، ثم تلبسها بعض الوقت وتقرأ عليها بعض التعاويذ. ويظن بعض العلماء أن الساحرة كانت تزعم أنها قد أمسكت بالنفوس وربطتها في هذه الوسائد والمخدات حتى تقضي عليها. وكان يمكن أن يُستعاض عن هذه الدمى والوسائد والمخدات بشيء مما يخص الخصم، مثل دمه أو شعره أو أظافره أو شيء من متاعه.
ولكن النبي ينذرهم بأن الرب سيقيم في صهيون حجر امتحان "كريمًا أساسًا مؤسسًا، من آمن لا يهرب. وأجعل الحق خيطًا، والعدل مطمارًا، فيخطف البرد ملجأ الكذب.. ويمحى عهدكم مع الموت، ولا يثبت ميثافكم مع الهاوية. والسوط الجارف إذا عبر تكونون له للدوس.." (إش28: 16-19).
ومن المحزن أن الكثيرين من الشعب القديم لم يطيعوا وصايا الرب بالابتعاد عن كل ما يتصل بالسحر والسحرة. فتقرأ عن الملك شاول أنه لجأ - بعد أن تخلى عنه الرب - إلى عرَّافة عين دور. كما نقرأ عن "سحر أيزابيل" (2مل9: 22)،وكان من أسباب القضاء على مملكة إسرائيل وسبي الشعب، "أنهم عبدوا البعل وعبروا بنيهم وبناتهم في النار وعرفوا عرافة وتفاءلوا وباعوا أنفسهم لعمل الشر في عيني الرب لإغاظته" (2مل17: 17) كما أن منسى ملك يهوذا "عبَّر ابنه في النار وعاف وتفاءل واستخدم جانًا وتوابع وأكثر عمل الشر في عيني الرب لإغاظته" (2مل 21: 6) ولكن حفيده التقى يوشيا أطاع الرب، فإن "السحرة والعرافون والترافيم والأصنام وجميع الرجاسات التي رُئيت في أرض يهوذا وفى أورشليم أبادها يوشيا ليقيم كلام الشريعة" (2مل23: 24).
وقد استأجر بالاق ملك موآب بلعام النبي الكذاب (عد22: 1-24: 16)، والعرَّاف (يش13: 22) ليلعن شعب الله. ولكن الله لم يسمح له بذلك، بل وضع في فمه - رغمًا عنه البركة عوضًا عن اللعنة، فقال: "كيف ألعن من لم يلعنه الله؟ وكيف أشتم من لم يشتمه الرب؟" (عد23: 8)، "إني قد أُمرت أن أبارك. فإنه (الرب) قد بارك فلا أرده.. إنه ليس عيافة على يعقوب ولا عرافة على إسرائيل" (عد24: 20-23). فيجب ألا يخشى أولاد الله القوى الشيطانية في جميع صورها ، لأنهم "مباركو الرب" (انظر مت 25: 34، أف1: 3).
ويصور إشعياء النبي عدم جدوى السحر والعرافة بالقول: "قفي في رقاك وفى كثرة سحورك.. ليقف قاسمو السماء الراصدون النجوم المعرَّفون عند رؤوس الشهور، ويخلَّصوك مما يأتي عليك. ها إنهم قد صاروا كالقش. أحرقتهم النار. لا ينجُّون أنفسهم من يد اللهب" (إش47: 12-15).