17- قيام اليهودية وتطورها: لايمكن المغالاة في تقدير أثر السبي في تطور اليهودية، فكما يقول الدكتور فوكس جاكسون (في التاريخ الكتابي للعبرانيين، 316): "إن السبي هو أحد الأحداث العظيمة في تاريخ الديانة .. فبالسبي أنتهي تاريخ إسرائيل، وبدأ تاريخ اليهود"، فوجودهم في وسط ذلك الخضم من الأمم الوثنية، جعل الجالية اليهودية تبتعد عن كل رجاسات المحيطين بهم، وتلتصق بإيمان آبائهم في إله ابراهيم. ولأنهم كانوا معرضين للازدراء والسخرية من الأمم التي كانت تحتقرهم، كوّنوا دائرة مقفلة علي ذواتهم، وهكذا نشأت عادة الانعزال التي أصبحت من خصائصهم منذ ذلك الوقت. فبعد أن أصبحوا بلا وطن وبلا نظام طقسي وبلا أي أساس مادي لحياتهم كشعب، تعلموا – كما لم يتعلموا من قبل – أن ينظروا بعين التقدير لتراثهم الروحي الذي وصل إليهم من الماضي العريق، فأقاموا هويتهم الوطنية – في محيطهم الجديد – علي أساس ديانتهم، ولقد شجعهم أنبياؤهم، وبخاصة إرميا وحزقيال، وأيدوهم بتأكيد البركات الروحية والوعد بالعودة. لقد كانوا في حاجة إلي مبدأ ثابت دائم لتنظيم كل حياتهم الاجتماعية والعائلية والروحية، وقد دفعت هذه الحاجة قادتهم ومفكريهم إلي الرجوع إلي شريعة موسي والاعتماد عليها، وحل المعلم (الربي) والكاتب في مكانة الكاهن الذي يقدم الذبائح، وشغل المجمع والسبت مركزًا جديدًا في حياة الشعب الدينية. لقد نضجت هذه المباديء اليهودية وغيرها، وبلغت أوجها بعد العودة من السبي، فهو الذي خلق الحاجة إليهما. وبينما كان الأنبياء واضحين في التنبوء بالسبي، فإنهم لم يكونوا أقل وضوحًا في التنبوء بالعودة من السبي. فإشعياء – بأقواله عن " البقية " – وكذلك ميخا وصفنيا وإرميا وحزقيال وغيرهم قد أبهجوا قلوب الشعب – كل منهم في أيامه – برجاء العودة، ليس ليهوذا فقط بل ولإسرائيل أيضًا، فستعود الكروم للازدهار فوق جبال السامرة كما في وديان يهوذا، بل إن إرميا تبنأ بمدة السبي عندما أعلن أن شعوب تلك البلاد ستخدم ملك بابل سبعين سنة (إرميا 25: 12، 29: 10).