توجه أبناء الرهبانية الجديدة لفتح العالم من غير غنىً أو سلاح.
يقول أنطوان دي سانت اكسو بيري: "يبغض الناس بعضهم بعضا لأنهم يعانون من البرد" (21)، وكان فرنسيس، وهو الرقة المتجسدة, يعرف سر بعث الدفء في الآخرين ومن ثم حملهم على المصالحة, فالقلب الذي يسودّ فيه السلام يصالح من يلامسه، أي عدوى، وقد ذكرت في موضوع الثقافة بأن الثقافة طهر والطهر يعدي .(22).. القداسة تثير إعجاب الكثيرين, بيد أنّ عدواها لا تصيب سوى القلة. وقداسة فرنسيس سرعان ما عمت واعترفت بها الجماهير في أسيزي و جوارها, أما الرغبة في احتذائها, فكانت بادئ الأمر نادرة بطيئة ومبعثرة. والجدير بالذكر أنّ إيطاليا التي كانت حقلاً لتبشير فرنسيس الإنجيلي كانت في الوقت ذاته ساحة تتصارع عليها شتى البدع والمذاهب, فلم يقاومها فرنسيس بالعنف أو الشتيمة أو الجدل العقيم والحُرم الكنسي على نحو ما فعل رجال الأكليروس آنذاك, بل أشاع روحا جديدا, جعل كل البدع تتلاشى, و تتوارى تلقائيا كما تتوارى الخفافيش لدى شروق أشعة الشمس الساطعة. فالمحبة, ومثال الحياة خير عظة. وثورة القدوة أبلغ أثرا وأبقى بما لا يقاس من الثورات العنيفة.(23)
كان فرنسيس يرفض كل مال وكل امتلاك, ويتوخّى فقراً مطلقاً, وعليه هو وأخوته أن يعملوا لقاء بُلغة العيش, ولا يقبلوا من أجر سوى طعام يومهم, وأن يرفضوا المال رفضاً مطلقاً, إلا ما كان منه لازماً لابتياع الدواء لأخٍ مريض. فالمال كالدود في الثمر يفسد العلاقات بين البشر. ويبرر فرنسيس عدم الامتلاك بقوله: "لو كان لدينا ممتلكات لكان لزاماً علينا أن نمتلك أيضا أسلحة للدفاع عنها، ويسوع ينهى عن الحرب ويأمر بالسلام بين البشر, فكل امتلاك يولد لا محالة خصومة مع القريب, من شأنها النيل من محبة الله و محبة الناس. ومن ثم لكي نحتفظ بهذا الحب نقياً وسليماً فنحن عازمون عزماً مطلقاً على ألا نملك شيئا في هذا العالم".
أذكر قولاً لبوذا: "إنّ همّ الإنسان فيما يملك, فمن كان بلا ملك كان بلا هم (25)".