لقد رأينا في طلبتَيْ: 'ليتقدّس اسمك' و'ليأتِ ملكوتك'، أهمّيّة أن يكون الإنسان منفتحًا على متطلّبات الله في حياته. وهنا، في هذه الطلبة، نجد المعنى عينه، وذلك أنّ مشيئة الله لا تتمّ في الأرض كلاميًّا فحسب، ولكن بالفعل أيضًا، أي بطاعة الحياة. هذا ما أظهره يسوع 'في ضيعة يقال لها جثمانيّة' (متّى 26: 42 وما يوازيها)، إذ صلّى قبل آلامه بثقة كاملة واستسلام كامل وحرّ لمشيئة الله أبيه، استسلام هو، في حقيقته، تعبير عن خضوعه لأبيه وتواضعه أمامه (قال: لتكن مشيئتك لا مشيئتي).
الربّ، في هذا النزاع الأخير، لم يطلب أن ينجّيه أبوه من الموت القريب، بل أراد أن يدلّ على تجاوبه وإرادةَ أبيه. وهذا ما يطلبه الربّ من الذين يرغبون بأن يعرفوا الله مخلّصًا وقدّوسًا: أن يتشبّهوا بيسوع فيثقوا بالله مهما كانت ظروفهم صعبة، ويبتعدوا عن كلّ شرّ يهاجمهم ويصلحوا أنفسهم دائمًا على ضوء رحمته ومحبّته (أنظر: رومية 12 : 1- 2).
ما يبيّن، إذًا، أنّنا قَبِلْنا هذه الطلبة هو أن نتخلّى عن مشيئتنا. وذلك لأنّ 'من يتخلَّ عن مشيئته فهو قدّيس'، كما يقول أبونا البارّ يوحنّا السلّميّ (المقالة 9/17).
وهذا (أن نتخلّى عن مشيئتنا) لا يعني، بالطبع، أن نكون بلا مشيئة، ولكن أن تصبح مشيئة الله هي إيّاها مشيئتنا. فالذين يطلبون مشيئة الله حقًّا هم أولئك الذين لا يقيمون وزنًا لما في هذا العالم من مغريات، وهم الذين مهما اشتدّت عليهم التجارب والمحن، لا يهادنون ولا يساومون على الحقّ، بل يقبلون النعمة التي أعطيت لهم بالمسيح الذي خلّص العالم من كلّ شرٍّ وموت لمّا استسلم كلّيًّا لمشيئة أبيه.