ولعلّ أعمق ما يذكّرنا به نداء 'أبانا'، في سياق هذين البعدين، هو أنّ كلّ صلاة، في عمقها ومداها، هي صلاة جماعيّة، فالذي يصلّي وحده في صومعته أو غرفته... هو يصلّي إلى الإله أبي الجميع، وتاليًا كعضو في عائلته (الكنيسة)، ويريده الربّ أن يعي ارتباطه بأخوته وبكلّ إنسان في العالم، وأن يفعّل التزامه فلا يكون بعيدًا أو متفرّجًا.
هذا ما يدلّنا عليه نداء 'أبانا'، وبعد. لا يريدنا يسوع، فيما نخاطب الله، أن نكلّمه بمنطق العهد القديم الذي لم يخلُ من الاعتراف بحنان الله على أولاده (انظر: خروج 4: 22؛ تثنية 32: 6؛ إشعيا 63: 8...، حكمة 3 :9 و 5: 5)، وذلك أنّ العهد الأوّل الذي أعطي في سيناء يلد العبوديّة (غلاطية 4: 24)، وجميع الذين أُخضعوا لشريعة الناموس كانوا عبيدًا (افسس 2 :15)، بل أن نعرف أو أن نقبل أن يقودنا روح الله إلى معرفة كوننا 'أبناء الله' المدلّلين، وأن ننادي الله بالطريقة عينها التي كان يلفظها الأطفال الآراميّون فيما كانوا يتدلّلون على آبائهم: 'أبّا' (أو كما نقول بلغتنا: 'بابا').
لقد نقلنا يسوع الذي يحقّ له وحده أن يخاطب أباه ببساطة كلّيّة وألفة حميمة (متّى 11: 25، 26: 39؛ مرقس 14 :36، 15: 34؛ لوقا 10: 21، 23: 46 وما يوازيها)، بنعمة روحه القدّوس، من حالة الخوف والبعد والجهل، وقرّبنا من الله أبيه،
وأعطانا أن نناديه بجرأة الأطفال (بابا) من دون أن تطالنا دينونة (كما تدعونا خدمة القدّاس الإلهيّ).
وهذا ما أكّده أحد آباء الكنيسة في القرن الخامس تعليقًا على ما قاله الرسول بولس في رسالته إلى كنيسة رومية، وهو: لأنكم ' لم تتلقّوا روح عبوديّة لتعودوا إلى الخوف، بل روح تبنٍّ به ننادي: أبّا، يا أبت! وهذا الروح نفسه يشهد مع أرواحنا بأنّنا أبناء الله' (أنظر 8: 14-16)، إذ قال: 'حين أضاف الرسول لفظة 'أبّا' علّمنا معنى الثقة التي يتّصف بها أولئك الذين اعتادوا أن ينادوا الله هكذا. وفي الواقع، الأولاد وحدهم يتعاملون مع آبائهم بحرّيّة كبيرة...، فيستخدمون غالبًا هذه اللفظة في التحدّث إليهم'.