ولا ينفعنا، في هذا المجال، أن نتبع القاعدة الأصعب التي يقول بها المفسّرون، فيما يقارنون بين النصوص، لمعرفة الكلمات التي خرجت من فم يسوع حرفيًّا أو الوصول إلى رواية حدث كما أتّمه. فإذا فضّلنا الصيغة الأقصر لهذه الصلاة، وهي صيغة لوقا (التي يرى بعض أنّها الأصل)، نهمل ما عند متّى من ميزات خاصّة (إيقاع متناسق، عبارات ساميّة...)، قد لا تناسب العقليّة اليونانيّة التي خاطبها لوقا، وربّما دفعته إلى تقصيرها وتكييفها.
اعتاد بعض المعلّمين القدماء على تقسيم الصلاة الربّيّة إلى قسمين؛ يقول العلاّمة ترتليانوس: 'ما أروع الحكمة الإلهيّة التي رتّبت هذه الصلاة فبعد أمور السماء (وهي الطلبات الثلاث الأولى) تأتي أمور الأرض وحاجاتها' (ويقصد بذلك الطلبات الأخرى).
غير أنّ هذا التقسيم - كما هو هنا - يجب أن نفهمه بتوافقه ومجمل فكر يسوع الذي يدعو إلى عيش الآخرة أوّلاً والعمل على تبيانها 'الآن وهنا' (يقول الربّ: 'اطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبّره...') . وذلك أنّ الذي يُرضي الله ليس أن نقدّس اسمه بإخلاصنا له فقط، ولكن بعملنا على خلاص البشر أيضًا (وهذا عينه من دوافع الإخلاص لله).
فلا يجوز أن نفهم، مثلاً، أنّ الطلبة الثانية في الصلاة الربّيّة: 'ليأتِ ملكوتُك'، تختصّ فقط برغبة المؤمنين في حلول الملكوت الآتي، لأنّ أولاد الله الحقيقيّين لا يعترفون بمجد الله الأخير فحسب، أو يتـوقون فقـط إلى اليـوم الـذي يملك فيه على كلّ أحبائه 'ويُخضع كلّ أعدائه تحت قدميه'، ولكنها أيضًا (تختصّ) بترجمة إيمانهم ورجائهم في هذا الدهر، وذلك لأنّ مُلك الله - بالنسبة إليهم - هو في خلاص البشر الذي يبتدئ هنا في هذا العالم. وهذا يمنعنا منعًا باتًا مـن التمييز بين ما هـو عموديّ (إرضاء الله) وبين ما هو أفقيّ (الاهتمـام بالناس وحاجاتهم)، إذ كيف نهتمّ بالله إن لم نلقَ أبناءه كأخوة (أنظر رسالة الإنجيليّ يـوحنا الأولى)؟
فالله هو أبونا جميعًا، وفي وعينا لبنوّتنا له يجتمع شوقنا الدائم إلى حلول ملكوته ويقوى عملنا على تقديس العالم. وفي السياق عينه يجب أن نفهم أنّ طلبة 'الخبز الجوهري' لا يتعلّق معناها بالخبز المادّي الـذي نأكله في هـذا العالم فحسب، ولكن أيضًا الخبز السماويّ الذي يعطيه الربّ للذين سيُجلسهم على مائدته الأخيرة 'مع إبراهيم واسحق ويعقوب'،
وهي تحثّنا تاليًا على أن نطلب دائمًا جسد الربّ الذي نتناوله في القدّاس الإلهيّ .