-6-
بمعزل عن هاتين العبارتين ذات المحتوى الموحّد اللتين قالهما المسيح تعبيراً عن الخوف الطبيعي من الموت، هناك أيضاً صلاته إلى الآب التي بها يطلب، إذا كان ممكناً، ألاّ يشرب كأس الآلام والموت: ?«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ»? (متى 39:26). للقديس يوحنا الدمشقي ملاحظات رائعة حول صلاة السيّد في الجثمانية. علينا أن نبيّن بعض النقاط المهمّة في هذا التحليل التفسيري. أولاً، يقول بأن الصلاة هي من جهة رفعٌ لنوسه إلى الله، ومن جهة أخرى التماس من الإنسان إلى الله ليُعطى حاجته.
لكن الأمرين ممكن أن يكونا في المسيح لأنّه دائماً متحد بأبيه وليس بحاجة أن يطلب أي شيء منه. ف المسيح صلّى، على غرار ما فعل عدة مرات في حياته، لأنّه ماهى نفسه بنا وأراد أن يعلّمنا أيضاً أن نصلّي وبهذا نرتفع إليه. ثانياً، بهذه الصلاة أظهر لنا أنّه يكرّم أباه، لأنّه مصدر ولادته وسببها، ولأنّه أيضاً ليس كافراً. الصلاة في الجثمانية تظهر لنا طبيعتي المسيح. عبارة ?الآب? تشير إلى الطبيعة الإلهية في المسيح، لأن كلمة الآب تشترك بالجوهر معه، وعبارة ?لكن ليس كما أريد بل كما تريد أنت?، تظهر الطبيعة البشرية لأنّها تشترك معنا بالجوهر. إذاً هذه الصلاة تظهر أن للمسيح مشيئتان، لا تختلفان، لأن المشيئة البشرية كانت دائماً تطيع وتذعن للطبيعة الإلهية.
لقد سعت الطبيعة البشرية إلى الهرب من الموت، لأن الموت ليس حالة طبيعية في الإنسان، لكن في النهاية أذعنت الإرادة البشرية للإرادة الإلهية، وبالتالي آلام المسيح طوعية. على الرغم من أن مشيئته البشرية تختلف عن الآب بالجوهر، لكنها تتبع المشيئة الإلهية وبهذا تصير إرادة الله الآب. بهذا النوع من الصلاة علّمنا المسيح أنّه علينا نحن أيضاً أن نصلّي في الظروف المماثلة. أولاً، خلال التجارب علينا أن نلتمس المعونة فقط من الله وليس من البشر. وثانياً، علينا أن نفضّل المشيئة الإلهية على إرادتنا. علينا أن نطبّق مشيئة الله، حتى ولو كانت مختلفة عن إرادتنا الذاتية.
البعض، عند قراءتهم لهذا المقطع، مستعدون للهزء بالمسيح قائلين أنّه ليس إلهاً حقيقياً. رداً عليهم، يقول باسيليوس أسقف سلفكية: إذا عنَت هذه العبارة بأنّ المسيح أتى إلى آلامه ضد إرادته مكرَهاَ، أي إذا كانت الآلام غير طوعية، فالقيامة غير طوعية. إذا كان الصليب ضد إرادة المسيح، فالنعمة تأتي بالقوة، وعليه فالخلاص ليس بحسب مشيئة المسيح لأنّه خلّصنا من دون أن يريد ذلك. مع ذلك، آلام المسيح طوعية ويظهر هذا في العديد من العبارات التي يستند إليها باسيليوس أسقف سلفكية كقول المسيح: ?وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ? (يوحنا 32:12)، ?لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا? (يوحنا 18:10)، ?لِهذَا يُحِبُّنِي الآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا? (يوحنا 17:10)، و?َالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ.? (يوحنا 11:10). كل هذه المقاطع تظهر أن طبيعة المسيح البشرية تعبّر عن الخوف والرهبة أمام الآلام والصلب والموت، ما يعني أنها تحتفظ بكل صفاتها، لكنّها في النهاية تذعن للمشيئة الإلهية وعليه فالآلام طوعية.