جناح الهيكل الملطّخ بدماء يعقوب أخي الربّ، وطرقات أورشليم الملطّخة بدماء إستفانوس، وكذلك أرضيّة مجمع اليهود الملطّخة بدماء الرسل المجلودين، كلّها تصرخ أنّهم كانوا يقدمون ذبائح حبٍّ وشكر لم يحسبوا أنفسوا مؤهّلين لها؛ فالألم لا يصير ألمًا لتابعي يسوع بل أملاً في عناق حار طوال الأبد.
ألم يلتقي تلاميذ يسوع مسيحهم ملطّخين بالدماء ما عدا يوحنّا؛ أكانوا تحت وطأة انتقام إلهي؟!!
إنّ الحبّ إن لم يصر ذبائحي فلا يستحق أن يُدعى حبًّا.
وماذا عن سراديب روما التي استوطنها مسيحيو روما في جوعٍ وعطش وعري وملاحقة من قبل السلطات طوال عقود، أكانت غضبًا يحجب البركة أم بركة تحمل النعمة؟!!
ألم يعلن المسيح صراحة: “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ” (يو 16: 20)
هذا التصريح يقوض دعاوى الرخاء المزعوم فنحن لسنا في تناغم مع قيم العالم؛ لأن أفراح العالم ليست أفراحنا، وأفراحنا ليست سوى شوكة لمنطق العالم العقيم. سنحزن ولكن هذا الحزن سيتحوّل إلى فرح وقيامة وسكنى دائمة.. على هذا الرجاء يحيا المسيحي..
ويطالعنا القديس يعقوب بتصريحٍ لا يحمل مواربة، إذ يكتب “اسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، أَمَا اخْتَارَ اللَّهُ فُقَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟” (يع 2: 5). من تلك الكلمات تتضّح المقاربة ما بين غنىً وفقر؛ فالفقر فيما للعالم من متع وقنيةٍ بينما الغنى هنا في الإيمان. إذًا فإن إمكانيّة تحقُّق معادلة الفقير فيما للعالم / الغني فيما لله تقوِّض الدعوى أيضًا بربط البركة ببحبوحة العيش.
جاءت كلمة الفقراء في اليونانيّة: πτωχός (بحسب Friberg Lexicon) وهي تعني من يعتمد على آخرين من أجل الدعم one dependent on others for support. هذا الفقير فيما للعالم لم يختاره الله ليصبح غنيًّا فيما للعالم، لم يقل الرسول هذا، ولكن ليصير غنيًّا πλουσίους في الإيمان ἐν πίστει ؛ فحيثما يكون الكنز هناك القلب يكون كما تحدّث المسيح من قبل. كنز المسيحي مرتكز في الأبديّة وإليها يتطلّع قلب المسيحي ويتحرّك. وحينما يغتني المسيحي بإيمانٍ حيٍّ يتأهل ليرث ملكًا معدًّا في المسيح عن يمين الآب.
لهذا نصلي مسبحين الله قائلين (تسبحة نصف الليل / أبصالية الأربعاء):
إن كنا معوزين من أمول هذا العالم
وليس لنا شيء لكي نعطيه صدقة.
فلنا الجوهرة اللؤلؤة الكثيرة الثمن
الاسم الحلو المملوء مجدًا الذي لربنا يسوع المسيح.
إذا ما لازمناه في إنساننا الداخلي
فهو يجعلنا أغنياء حتى نعطي آخرين
ويكتب القديس كليمندس السكندري في كتابه المربّي (2. 3. 38)، فيقول: “إنّ الثراء غير المنضبط هو معقل للشرّ، والذين تتعلّق أعينهم به ويشتهونه لن يدخلوا أبدًا ملكوت السماوات لأنّهم يسمحون لأنفسهم بأن تلوَّث بما للعالم إذ يحيون بافتخارٍ وترفٍ.. الغنى الحقيقي هو الفقر في الرغبات، والنُبل الحقيقي ليس في الثراء ولكن ما يأتي من ازدرائه..”