كان أبشالوم يلقى الدعم والتشجيع من الرابيين الذين يثنون على حميته على اسم الربِّ الذي يجب الدفاع عنه ضدّ الأمم الأنجاس عابدي الأوثان. فلقد تلقّن من المُعلّمين منذ أن كان في بيت ها سِفِرْ (بيت الكتاب، وهو المكان الذي يتعلّم فيه الصبي، التوراة، في المرحلة الأولى من عمره) أنْ يغير على الربّ واسمه بين الأمم وهو الذي كان يدفعه إلى الدخول في شجاراتٍ دائمةٍ مع اليونانيين والرومان من أهل المدينة.
كان يتذكّر كلمات يوسيفوس عن أولئك الذين سُجنوا وتحمّلوا مختلف الآلامات بل والموت على مسارح الاقتتال من أجل صمتهم وعدم تلفُّظهم بكلمةٍ في حقّ الناموس والنصوص المُقدّسة.
إلاّ أنّ ما يلقاه من إطراء على غيرته البدنيّة جعله يُفكّر: ألا يستطيع أدوناي أنْ يبيد الأمم بنفخة فمه، ويعيد المجد والسيادة لشعب الربّ؟؟ ولكنه كان ينفض غبار التساؤل سريعًا، ويرجع ويقول لنفسه: إنّ ما نلقاه من مضايقات لهو تأديبٌ من أدوناي للشعب بسبب مخالطته للأمم وحيده عن الوصايا.
آه.. متى يأتي المسيّا ليُخلّصنا من هؤلاء الغوغاء وتصير الأرض كلّها لأدوناي ولمسيحه؟؟ سؤال كان يراوده ليل نهار..
كان أبشالوم على موعد مع الرابي موشى الذي كان يلقاه ليُفسِّر له بعض الأمور الغامضة في التَنَخْ (النصوص الكتابيّة). فقد كان الطفل اليهودي يتعلّم منذ نعومة أظافره أقوال الحاخامات القُدامَى عن أهميّة تعلُّم الناموس. ولعلّ كلمات الرابي هِلِّل كانت أكثرها ترديدّا على فم الرابي موشى إذ اعتاد أن يقول:
الرجل الجاهل لا يمكن له أنْ يكون تقيًّا بالحقّ.. ومَنْ يُكثِّر من تعلُّم الناموس تزداد له الحياة، وكلّما ازدادت مدارس تعليم الناموس، ازدادت الحكمة وازداد التعقُّل. إنّ مَنْ يقتني له معرفةً بالناموس يقتني له حياةً في الدهر الآتي.
لم ينس أبشالوم تلك الرحلة التي صحبه فيها الرابي موشى لرؤية رابي يهودا هالنّاسي وهناك رأى العمل العظيم الذي كان يقوم به من تجميع أقوال المُعلّمين وأقوالهم في المُجلّد ذو الثلاثة والستّون فصلاً والذي أسماه المشناه. وهناك سمع منه كلمات ضربت بجذورها في عقله، حينما قال: افتكر بثلاثة أمور فلا تقع في الخطأ؛ أنّ فوقك عينًا ترى وأذنًا تسمع وأنّ أعمالك كلّها مُدوّنة في كتابٍ..
دخل أبشالوم على الرابي مُلقيًا بالتحيّة: شالوم رابي..
- شالوم أبشالوم.. ماذا حدث، يبدو عليك الإنهاك، وما سبب هذا التورُّم الذي في وجهك، هل تعاركت مع أحدٍ؟؟
- نعم يا مُعلّم، فلقد سَخَرَ أحد اليونانيين الحمقَى أتباع سيرابيس من أدوناي متلفّظًا بالاسم المُقدّس بل ومستبيحًا الحديث عن سبت الربّ..
- إنّ الجوييم (الأمم) دائمًا يتربّصون بنا ويحاولون استفذاذنا، إنّهم يريدوننا أنْ نتحوّل عن ديانة آبائنا، وننقض العهد الذي قطعه الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب مع أدوناي، لذا يجب ألاّ نصمت أمام سخافاتهم، بل علينا أنْ نلقنهم درسًا ونُريهم قوّة جند الربّ..
- هذا ما فعلته..
- حسنًا فعلت، وإنك لأشبه بإيليا الذي غار غيرةً للربّ -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- وأغار على كهنة البعل وأوثانه النجسة.
- ومَنْ أنا لأتشبّه بإيليا العظيم..
- مَنْ غار غيرةً للربّ فقد صار من زمرة الغيورين الذين لهم نصيبًا كبيرًا وعظيمًا في مملكة القدّوس القادمة.. على أيّة حال دعنا نترك أمر الأمم لندخل إلى الشاكيناه (المجد الإلهي الذي كان يُظلّل الجبل عند نزول الربّ على الخيمة) ونفتح النصّ المُقدّس لنتعرّف على إلهنا ووصاياه..
فتح أبشالوم الرقّ وهمّ بالقراءة فاستوقفه الرابي قائلاً: دعنا نتلو البركة أولاً.
- عذرًا فقد نسيت.
رفع الرابي موشى يديه في مستوى صدره ملاصقًا اليدين من خلال تماس الإبهامين، وأغمض عينيه وقال:
امنحنا يا أبانا نعمة المعرفة التي هي منك،
وأيضًا الفهم والتمييز من ناموسك.
ردّ أبشالوم وهو مُطامِن الرأس قائلاً:
مبارك أنت أيها الربُّ، يا مَنْ تمنحنا نعمة المعرفة.