الفصل الثالث: أبشالوم
جلس أمام الفرن المشتعل وأدخل الزجاج المصهور بعد أنْ قام بنفخه عِدّة مرّات من خلال قضيبٍ من الحديد عند الطرف. كان يُخرِج الزجاج الذائب المُتوهّج ويبدأ في إدارته يمينًا ويسارًا بسرعة شديدة من خلال قضيب الحديد المُتّصل به، بينما كان يمسك بيده اليسرى قضيبًا آخر مثني ذو طرفين يعلوه مقبض خشبي على الناحيتين، كان يستخدمه لإضفاء أطوالاً للزجاج الذائب. كان يضيف إلى الزجاج المصهور أكسيد النحاس لإكسابه ألوانًا برّاقة، الأمر الذي جعله يشتهر في المدينة.
إنّه أبشالوم الشاب اليهودي. كان في النصف الثاني من العشرينات، إلاّ أنّ الوَخَطَ (أوّل الشيب) قد عرف السبيل إلى رأسه ولحيته الصغيرة. يعمل في صناعة الزجاج مع والده إليعازر أحد رجالات المجمع اليهودي. امتلك إليعازر حانوتًا كبيرًا لبيع الأواني والزهريّات الزجاجيّة التي كان يُصنِّعها على اختلاف أشكالها وأنواعها.
كان إليعازر من أثرياء اليهود السكندريين وكان يُعوَّل عليه كثيرًا في سدّ نفقات الاجتماعات والدراسات التي تجري في بيت المِدْرَاش (بيت الدراسة) المُلحَق بالمجمع، كما كانت له أيادٍ بيضاء على المجمع الكبير لتوفير احتياجاته لإعادته إلى سابق عهده قبل التخريب الذي أصابه إبّان الفتنة الكبرى عام 116 م.
كان الحي اليهودي هو الحي الرابع، حي دلتا (Δ)، إذ كانت الأحياء السكندريّة الخمسة تُسمّى بالحروف الأولى من الأبجديّة اليونانيّة، ويقع الحي اليهودي في الجهة الشماليّة الشرقيّة من المدينة.
كان المجمع الكبير يقع في ليونتوبوليس في إحدى ضواحي الإسكندريّة. والمجمع كان بناية ضخمة حتّى إنّ المجتمعين في السبوت لم يستطيعوا سماع القراءات والصلوات فكانت تُستخدم الأعلام حتّى يردّ الجميع بالـ“آمين” عقب البركات، هكذا كان المجمع قبل ما يناله خراب الرومان..
وبالطبع كان أبشالوم ممّن تربّوا على التقليد اليهودي وحلَّق في الخيال مع قصص الأجَّداه (الأمثال والحِكَم والقصص اليهوديّة) وتتلمذ على الرابيين ذوي المكانة المرموقة في المجتمع اليهودي نتيجة لتحفُّظهم في تطبيق الوصايا.
وعلى الرغم من كون الإسكندريّة لوحة تحمل الكثير من الأعراق والأجناس والأفكار والثقافات إلاّ أنّ التشاحن كان يطفو أحيانًا على السطح ليقود لمعاركٍ شرسةٍ بين الفرقِ.
كثيرًا ما كان يشهد الأجورا (السوق) الصراعات والتلاسنات، وخاصةً مع اليهود الذين يبدو عليهم وكأنّهم يأنفون من معاملةِ غيرهم، وهم يشعرونَ بأنّهم عِرقٌ نقيٌّ خاصٌ بالإله؛ يهوه. وفي المقابلِ كان اليونانيون والرومانيون يرون أنّهم أسياد المدينةِ فكريًّا وسياسيًّا وأصحاب الحقوق الكاملة والمناصب الرفيعة، فهم لا يدفعون ضريبة الرأس، بينما كان السكندريون من الأصول المصريّة يرون أنّهم أصل الشجرة الوارفة الظلال وأنّ الفرقتين السابقتين دخيلتان عليهم. وهو الأمر الذي يؤدّي إلى التطاحنِ وقد يصلُ الأمرَ إلى إراقةِ الدماء.