عَبَرَ إليوس الممر ذو الرواق المسقوف، وكان على جانبيه مقاعد قد شغلها بعض العلماء، منهم مَنْ يقرأ في برديةٍ، ومنهم مَنْ كان يُدوِّن خواطره الفكريّة، ومنهم مَنْ اشتبك في حوارٍ مع آخرين، ومنهم مَنْ جلس مُرتديًا التوغا الرومانيّة (الجبّة) وهو ينسجُ في قريحة بعض الشباب أولى خيوط المعرفة.
لم تكن عينا إليوس تشبع من تلك المناظر التي يراها بشكلٍ يوميٍّ، وكأنّه يريد أنْ يخترق كلّ الجلوس لينهب أسرارهم العلميّة ويُخبّئها في خزانة عقله الذاتيّة. الشغف كان أوّل ما يتلقّنه مرتاد المكان، فمَنْ يتجمّد في المعرفة يتراجع إلى الخلفِ. فالمعرفة حركة وتفاعُل ومغامرة وطموح لا ينتهي ولا يشيخ ولا يتوقّف..
كان شغفُ الدارسين للعلوم أشبه بروح تنسلّ إلى كلّ من وطأ المكان بقدميه، وكأنّ روح الإسكندر مُؤسِّس المدينة كانت في المكان لا تفارقه، وهو الذي قال عنه بلوتارخوس إنّه: كان شديد الشغف بالعلم، شغفًا يزداد على مرّ الأيام.. وكان مُولعًا بجميع أنواع المعارف، مُحبًّا لقراءة جميع أنواع الكتب. كما كانت تتردَّد على ألسنة مرتادي الموسيون عبارة أرسطاطاليس أنّ العِلم هو ما يمتازُ به الحيّ عن الميّت.
رقَى درجات السُلَّم حتّى وصل إلى المرصد، كعادته، الذي ازدانت جدرانه بالصور الزاهية المُطعّمة بالحجارة الغالية الثمن. توجّه إلى بسكينوس الذي كان مُنهمكًا في رصد حركة بعض النجوم وتدوين معادلات حركتها حسابيًّا. وحالما رآه بسكينوس، قال:
- مرحبًا إليوس، تأتي في موعدك دائمًا.
- لقد علّمتني أنّ العِلم لا ينتظر أحدًا.. ومَنْ يتأخّر على المعرفة أغضب ربّاتها.
- حسنًا، سنبدأ بعد عِدّة دقائق.
أخذ بسكينوس يُدوِّن ملاحظاته في هدوءٍ ورويّةٍ، ثم أغلق الرقَّ ووضعه على الطاولة، وجلس على مقعده ذو الأرجل العاجيّة المخروطية، وبدأ يتوافد حوله الطلبة حتّى شكّلوا نصف دائرة.
بدأ يشرح لهم الجدول الذي وضعه بطليموس في النجوم والذي يحوي تفاصيل حوالي ألف نجمٍ يدورون في الفضاء الفسيح.