(2) العمل على اكتساب دخلاء: إن التبشير بالإنجيل، قد سبقه ومهد له تشتت اليهود وتبيشيرهم باليهودية في كل نواحي المسكونة. ففي القرن الخامس قبل الميلاد، كان هناك معبد لليهود في جزيرة ألفنتين قرب أسوان. وقد اسكن الاسكندر الأكبر ثمانية آلاف يهودي في طيبة في بلاد اليونان. كما كان اليهود يكونون حوالي ثلث سكان الإسكندرية. أما بطليموس الأول (320 ق. م.) فقد استقدم عددًا كبيرًا منهم من فلسطين، فانتشروا تدريجيًا في مصر على طول الساحل الإفريقي للبحر المتوسط، وبعد الالضطهاد المرير الذي ذاقوه من يد أنطيوكس أبيفانس (170 ق. م.9، تبعثروا في كل مكان. وجاء في الأقوال السبيلينية (160 ق. م.): "لقد ازدحم بهم كل مكان سواء في البحر أو البر"، فلم يكن يوجد ميناء أو مركز تجاري في آسيا الصغرى ومقدونيا وبلاد اليونان، أو أي جزيرة في بحر إيجة، يخلو منالتجمعات اليهودية. ويقتبس يوسيفوس ما قاله "سترابو" (Strabo): "من الصعب أن تجد مكانًا في كل المسكونة يخلو من هؤلاء الناس"،
ورغم الازدراء والكراهية اللتين قوبلت بهما "اليهودية" في كل مكان، فإنه لسموها وحزمها ورفعة مبادئها الروحية، اصبحت معروفة في كل العالم، وكان لها تاثير كبير على الذين لم يجدوا شبعهم في الديانات المعاصرة. وفي تلك الفترة امتلأ اليهود بحماس تبشيري امتد إلى كل العالم، فخرجت كتب عن "اليهودية" (مثل الأقوال السبيلينية)، كتبها يهود مجهولون رغبوا في التأثير على الوثنيين. وقد فتح المجمع اليهودي - الذي كان مركز العبادة اليهودية - أبوابه أمام العالم الوثني (انظر أع 15: 21). وقد استهدفت غالبية العظات التي كانت تلقى في المجامع تبشير الوثنيين،فقد شعر اليهود بأن عليهم أن يكونوا "قادة للعميان ونورًا للذين في الظلمة" (رو 2: 19).
ولم يكن يوسيفوس فقط، بل وسينكا (Seneca) و"ديوكاسيوس" (Dio Cassius)، و"تاسيتوس" (Tacitus)، و"هوراس" (Horace)، و"جوفينال" (Juvenal) وغيرهم من الكتاب اليونانيين والرومانيين، يشهدون بالآثار الواسعة للدعوة التبشيرية لليهود. فكثر الذين يترددون على المجامع اليهودية ويحفظون بعض الفرائض والعادات اليهودية، وكان بين هؤلاء الرجال الذين قيل عنهم إنهم "يخافون الله" كما جاء في سفر الأعمال (انظر أع 10: 2). وقد دعوا هكذا لتمييزهم عن غيرهم من "الدخلاء" الذين اعتنقوا اليهودية تمامًا. ولعله لهذه الجماعات سجلت التحذيرات على لوحات باللغتين اليونانية واللاتينية ووضعت في مدخل الهيكل.
وهناك فئة أخرى حفظت كل الشرائع والعادات اليهودية فيما عدا الختان، وهناك من ختنوا أطفالهم فقط. ومن العادات اليهودية التي يحفظها هؤلاء المتعاطفون مع اليهود، الصوم والتطهير والامتناع عن أكل لحم الخنزير، وإيقاد الشموع مساء يوم الجمعة، وحفظ يوم السبت. ويؤكد "شورر" (Schurer) أنه كانت هناك اجتماعات لليونانيين والرومانيين في آسيا الصغرى، بل ومن المحتمل أنها كانت في روما أيضًا، ولو أنه لم يكن لهذه الاجتماعات صلة بالمجامع اليهودية، إلا أنها تشكلت على نمط المجامع اليهودية مع حفظ بعض العادات اليهودية. ومن المحتمل أنه كان من بين هؤلاء من اختتنوا، وقد خضع أولئك المختتنون لهذه الطقوس حبًا في الزواج من يهوديات، أو للتمتع بالحقوق والامتيازات التي منحها الحكام السوريون والمصريون والرومانيون لليهود. ويتضح من كلمات الرب يسوع المسيح في إنجيل متى (مت 23: 15) أن عدد الدخلاء لم يكن كبيرًا. وقد أجبر "هركانوس" (Hyrcanus) المكابي، الأدوميين في 129 ق. م. على اعتناق اليهودية والاختتان، كما نشرت الدعوة بالقوة في فترات أخرى. ويروي لنا يوسيفوس القصة المثيرة لاعتناق الملكة هيلانة ملكة "أديابين" وولديها لليهودية. فقد اعتنق ابناها اليهودية على يد تاجر يهودي يدعى "حنانيا" لم يجبرهم على الختان، ولكن بعد أن تقابلا مع أليعازار اليهودي الجليلي وأوضح لهما أنه لا تكفي قراءة الشريعة بل عليهما أن يحفظاها (أي يتمماها) فاختتن الأميران. ومن هذا يتضح لنا أنه كثيرًا ما كان يختلف الداعون إلى اليهودية في صرامة التمسك بالشريعة اليهودية.