إيمان الكنيسة والثالوث الأقدس
إن الكنيسة وعلى خطى الرسل آمنت وما تزال تؤمن بسر الثالوث الأقدس. "فقد انطلق إيمان الكنيسة بسر الثالوث الأقدس من خبرة الرسل الذين عاشوا مع المسيح ابن الله واختبروا عمل الروح القدس في المسيح وفيهم من بعد قيامة المسيح". كان عمل الكنيسة التبشيريّ يقوم على التعليم ثم التعميد حسب تعاليم السيد المسيح التي فيها أوصى تلاميذه بالتبشير ثم التعميد (متى 28: 19-20)، وأيضا طمأنهم بأن من آمن واعتمد سيخلص (راجع مر 16: 15-16). كانت الكنيسة في القرون الأولى تهيئ الموعوظين لتقبّل سر المعمودية حيث كانت تشرح لهم معاني العماد وقبل الاعتماد كانت تسألهم، أو تؤكد على إيمان الموعوظين بثلاثة أمور:
- الإيمان بالله الآب القدير؛
- الإيمان بيسوع المسيح ابن الله الذي ولد بفعل الروح القديس من مريم العذراء ومات وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، وجلس عن يمين الله، وسوف يأتي ليدين الأحياء والأموات؛
- الإيمان بالروح القدس، وبالكنيسة المقدسة وبقيامة الجسد.
هذا الإيمان هو ما نعلنه كل يوم خاصة خلال القداس الإلهي: "نؤمن بإله واحد … نؤمن بيسوع المسيح … نؤمن بالروح القدس".
إن لآباء الكنيسة شأن عظيم في تعليم الكنيسة حول الثالوث. فكتاباتهم وعظاتهم حول الثالوث جاءت مكملة لتعليم العهد الجديد الذي يؤكد تثليث الأقانيم ووحدة الجوهر. فمن هؤلاء الآباء القديس نجد إيريناوس، أسقف ليون الذي فصّل في كتابيه "ضد الهراطقة" و "تبيين الكرازة الرسولية" الخالق والعقيدة المسيحية. وحول الثالوث يقول في كتابه "ضد الهراطقة":
هوذا تعليم إيماننا المنهجي وأساس خلاصنا وركن بنائه: إنه الله الآب الذي لم يُخلق ولم يولد ولا يرى، الإله الواحد، خالق كل شيء، هذا هو البند الأول من إيماننا. أما البند الثاني فهو التالي: إنّه كلمة الله، وابن الله، ربنا يسوع المسيح، الذي ظهر للأنبياء في الشكل الذي وصفوه به في نبوءاتهم ووفق تدبير الآب الخلاصيّ، الكلمة الذي كوّن كل شيء، والذي في ملء الأزمنة، صار إنساناً ليعيد كل شيء ويضبطه، فولد من البشر، وصار منظورا ًوملموسا ليبيد الموت ويظهر الحياة، ويعيد الوحدة بين الله والإنسان. أما البند الثالث فهو الروح القدس الذي نطق بالأنبياء، وعلّم آباءنا الأمور الإلهية، وقاد الصديقين في طريق البِرّ. وهو الذي في ملء الأزمنة، أفيض بشكل جديد على البشرية، فيما كان الله يجدّد الإنسان على الأرض كلها" (الكرازة الرسولية 3 و 6).
كان للآباء الشرقيين في القرن الرابع الميلادي شأن كبير في توضيح الثالوث الأقدس والدفاع عن الإيمان ضد الأريوسية. ومن هؤلاء الآباء نجد الكبّاذوكيّين ومنهم باسيليوس الكبير وأخوه غريغوريوس النيصيّ وغريغوريوس النزينزي حيث كان لهم الفضل الكبير في رسم نهج واضح للاهوت الثالوث الأقدس وقد سار على هذا النهج لاهوتيو الشرق والغرب. من ميزاتهم في عرضهم لعقيدة الثالوث فإنهم:
* ينطلقون من تثليث الأقانيم، ويبيّنون أنّ الأقانيم الثلاثة متّحدون في جوهر واحد، هو جوهر الألوهية، أو الطبيعة الإلهية؛
*يرون في الكتاب المقدس أساس تثليث الأقانيم ووحدة الجوهر: فالآب ظهر بالابن وبالروح، وعمل الآب والابن والروح هو عمل واحد بالنسبة إلى تقديس الإنسان وتأليهه. فعلى السؤال الذي يمكن طرحه: لماذا نؤمن أنّ الإله الواحد هو في ثلاثة اقانيم وليس أكثر، نجيب انطلاقا من هذه النظرة: لأن الله ظهر لنا في الوحي الكتابي ثالوثاً، وهذا الظهور هو كمال وحي الله لذاته؛
*الميزة الثالثة تقوم على الترتيب الذي يضعونه بين الأقانيم، مع تأكيد وحدة الجوهر: فالآب هو المصدر الذي منه وُلد الابن، ومنه انبثق الروح.
وعند الآباء الغربيين نجد القديس أغسطينوس يتحدث عن الثالوث ويستوحي حديثه هذا من رسالة يوحنا الأولى (1 يو 4: 16) "الله محبة".
فهو يرى في الأقانيم الثلاثة العناصر الثلاثة الضرورية التي تكوّن المحبة: المحب، المحبوب والمحبة ذاتها. فالآب هو الذي يحب الابن، والابن هو الذي يحبّه الآب، والروح القدس هو المحبة ذاتها، كما جاء في قول بولس الرسول: "إن محبة الله قد أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه" (رو 5: 5). فالروح القدس هو علاقة المحبة التي تربط الآب بالابن والابن بالآب، هو المحبة المتبادلة بين الآب والابن.
ومن الآباء الشرقيين نرى القديس يوحنا الدمشقي الذي في نظرته لموضوع الثالوث الأقدس لا تختلف عن الآباء الكباذوكيّين. ففي مؤلفه "المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي" ينطلق من الإيمان بالإله الواحد وبعدها يميز بين الأقانيم مبتدئاً من التمييز بين الآب والابن ويوضح دعوة يسوع الابن بـِ "ابن الله الوحيد". ويوضح الفرق بين الابن والروح. وأخيراً يوضح كيف أن الثلاثة إله واحد. فيؤكد وحدة الجوهر، أي وحدة الألوهية. ووحدة الخواص الإلهية: الصلاح والقوّة والمشيئة والفعل والسلطة. لذلك لا نقول بآلهة ثلاثة، بل بإله واحد. ولكن الإله الواحد الذي نؤمن به هو في ثلاثة أقانيم غير مختلطين، أي متميزين، وغير منفصلين ولا منقسمين. ويتابع في مؤلفه ليشبه الأقانيم الثلاثة في الجوهر الواحد بالشمس وشعاع الشمس ونور الشمس.