الفصل التاسع
العبادة والاقتراب من الله
إنَّ الجميع يعبدون شيئاً ما، باستطاعتك أن تذهب إلى أيّ مكان فتجد أشخاصاً كثيرين يتعبَّدون، فلو لم تكن تعبد الله فسوف تجد بديلاً، حتى لو كان هذا البديل هو أنت أو المال أو الممتلكات..! فما هى العبادة؟ وما هو دورها في حياتنا؟ وما هى الأشياء التي تعوقها؟
العبادة ما هى ؟ ولماذا ؟
إنَّ العبادة في أبسط معانيها هى كل الممارسات الروحية التي تُُقرّب الإنسان من الله، إذن فتلاوة الأقوال المقدسة، والترتيل، والتسبيح، والسجود أمام الله.. هى عبادة.
إنَّها الطريقة التي أتفاعل بها مع الله الذي أحبني، فالله هو الذي خلقنا من العدم، وبعدما سقطنا تجسّد ومات على الصليب ليخلّصنا، وإلى الآن يغفر لنا خطايانا ويباركنا ويحمينا ويرعانا... ولهذا نحن نعبده.
أهمية العبادة
إنَّ العبادة تربط العقل بالله، وتجذب الروح إلى السماء، وتُرذل من القلب محبّة العالم، وتُقوّي الرجاء فيتجلّد الإنسان تجاه الضيقات ويصبر على الشرور، وبالحديث مع الله يستنير القلب، ويُمنح الضمير حياءً وعفة، ونتأمل في الملكوت الموضع الذي نحن مزمعون أن نُقدّم فيه السجود بالروح والحق.
والحق إنَّ ظلمة العقل وجفاف الروح.. تبتديء حينما تتهاون وتتراخى في عبادتك، فإذا أهملتها وتكاسلت عن أداء واجباتها، تُفارقك المعونة الإلهية التي كانت تُرافقك، وذلك لأنَّ الانتقال من ناحية اليمين معناه الاتجاه نحو الشمال.
وقد يستمر الإنسان في حياته الفاترة ويتكلم عن الفضائل، ولكن لا فرق بينه وبين الأعمى العادم النور ويُجادل على حسن الألوان الجميلة.
حارين في الروح
لا يمكن أن يكون الإنسان باراً ما لم يكن عابداً حقيقياً بالروح لله، ولهذا يوصي مُعلّمنا بولس الرسول أهل رومية قائلاً: " غَيْرَ مُتَكَاسِلِينَ فِي الاِجْتِهَادِ، حَارِّينَ فِي الرُّوحِ، عَابِدِينَ الرَّبَّ " (رو11:12).
وقد وبخ رب المجد يسوع خادم كنيسة لاودكية لأنَّه كان فاتراً " هَكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي " (رؤ16:3).
والحق إنَّ العبادة الشكلية هى أشبه بجسد قد نُزعت منه الروح، وهى لا تقود الإنسان إلاَّ إلى الكبت الذي يُعدّ خراباً للشخصية، ونحن نعرف خطورة الضجر على الإنسان، ونعرف أيضاً كم أثّر الفتور والاستهتار على المؤمنين بالسلب! ولهذا لا نتعجب إذا صام إنسان صوماً روتينياً! ثم بعد انتهاء الصوم مارس حياة النهم حتى سقط في خطايا بشعة..
العبادة بفهم
ما الذي يمكن أن نقدّمه لإله يمتلك كل شيء؟ الإجابة: قدّم له قلبك " َتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ " (مر30:12)، فذبيحة الحُب هى أعظم ذبيحة يمكن أن نقدّمها لله.
ولكنَّ الله يريدك أيضاً أن تعبده بفهم ويقظة " تُحِبُّ الرَّبَّ من كُلِّ فِكْرِكَ "، هل تعلم لماذا؟ لأنَّ الله ينظر إليك بشكل دائم، ولا يحوّل عينيه عنك، " يَا رَبُّ قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي، أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ" (مز1:139– 3)، إنّه لا يتوقّف عن التفكير فيك لأنَّه يُحبّك، ولهذا يريد أن نركّز انتباهنا عليه وتمتليء قلوبنا بُحبّه.
الاجتهاد والتغصب
" إنْ كَانَ أحَدٌ يُجَاهِدُ لاَ يُكَلَّلُ إنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَانُونِيّاً " (2تي5:2)، فكل إنسان لا يُجاهد حسب قامته الروحية والجسدية، لا يتقدّم في حياته الروحية، وسقوطه يكون متواتراًً، أمَّا من يتعب قليلاً في الصلاة والقراءة في الكتاب المقدس... فإنَّ تعزيات الله تملأ قلبه، ويؤهّل لحفظ الملائكة، ويتقدّس بتماجيد الروح وفعل الصلاة...
إلى أيّ شئ تقود الراحة ؟ أليس إلى الهلاك! إنَّها تؤذى أكثر من الشياطين، فالعفة وسط النياحات لا يمكن أن تلبث بغير فساد، ولهذا فإن كل من يرفض أن يسقي بذاره بعرق جبينه، فلن يحصد في النهاية سوى الأشواك.
والحق إنَّ كثيرين يتراخون في عباداتهم، في وقت لا يكلّون في أعمالهم! وها نحن نتساءل: هل يمكن لإنسان أن يلتقي بالله، ما لم يقمع ميوله الحسّيّة ويبتعد عن ملاذه الجسدية؟! أعتقد أنَّ الكمال الروحيّ لا يأتي إلاَّ بعد جهاد عنيف وصراع طويل مع الرغبات والشهوات.. وكد وتعب في الممارسات الروحية للوصول إلى قلب الله لأنَّ " مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ " (مت12:11)، وكما يقول بولس الرسول: " فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ " (أع35:20) .
معوقـات العبادة
إنَّ الخطية هى أكبر حاجز يعوق حياتنا الروحية، ولا يوجد شيء يحجب نور مجد الرب مثل الخطية، لأنَّ الله نور والخطية ظلمة، فهل يمكن للنور والظلمة أن يلتقيا معاً؟!
وهناك الإفراط في المأكل يعوق ممارساتنا الروحية، لأنَّ معرفة أسرار الله لا يمكن أن تُدرك عندما يكون البطن مليئاً بالطعام، ولهذا يقول أحد الآباء: " أفضل لك أن تتخلّف عن الصلاة بسبب الضعف الناتج عن الصوم من أن تتخلّف بسبب الكسل الناتج من الامتلاء ".
ويُعَدّ الاهتمام الزائد بالأمور الجسدية من ملبس ومأكل ومشرب... من أكبر معوقات العبادة الروحية، ولهذا كلّما تخلو أفكارنا من رغبات العالم الفانية، كلّما اشتقنا إلى الحديث مع الله والاهتمام به، والحق إنَّ كل مَن يريد أن يحيا بالروح يجب أن يتهاون بأمور الجسد التافهة لأنَّه كلّما يصغُر الٍٍعالم في نظرك تتزايد محبة الله في قلبك وتأتيك نعمة الروح القدس.
أمَّا الأحاديث الباطلة فهى تحجب عنّا نور النعمة، كما تحجب الغمامة نور الشمس، وهى تؤدي إلى تشتت الفكر في الصلاة.. ولهذا يقول الشيخ الروحانيّ: " إنَّ كثرة الكلام تولّد الضجر للسامع والمتكلم ".