الفصل السابع
التجسّد الإلهيّ ورفعة الإنسان
سقط الإنسان وأصبح بالخطية مفصولاً عن خالقه، غريباً عنه، بل غريباً عن نفسه وعن الآخرين، يحيا في الظلام بدل النور، والخطية بدل القداسة.. وهكذا أصبح بين الإنسان والله فاصلاً كبيراً.
ثلاثة حواجز على الأقل، يجب على الإنسان أن يتجاوزها لكى يصل إلى الله ألا وهى: الطبيعة البشرية، والخطية، والموت.
فطبيعتي البشرية التي امتلأت بالشهوات، وأصبحت تميل إلى حب الذات واللذات.. صارت تجذبني إلى نفسي وليس إلى الله.
والخطية أصبحت كحاجز يفصل الإنسان عن خالقه، أو حجاب أسود يحجب نور مجد الله عنَّا " لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟" (2كو14:6).
أمَّا الموت فينهي حياتي، ويقضي على مسعاي في التوبة، ولهذا أصبح الموت عدو الإنسان الذي يُرعبه.
لماذا التجسّد ؟
ولأنَّ الإنسان بقدراته الذاتية يعجز عن تخطي هذه الحواجز والوصول إلى الله، تجسّد ابن الله لكي يُخلّص ما قد هلك، فالخـلاص ليس حركة من الإنسان إلى الله, بل من الله إلى الإنسان، ولا يوجد إلاَّ مُخلّص واحد هو المسيح، الذي نزل من السماء إلى الأرض، لكي يرفع الإنسان من الأرض إلى السماء، فوُلد في مذود مع أنَّ الملاك قد قال لأُمّه مريم " يُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ " (لو33،32:1)، فهل أخطأ الملاك؟ حاشا! لكنَّ المسيح جاء ليملك مُلكاً روحياً على قلوب البشر، ولكي يُضرم نيران ثورة لم تخمد شعلتها بعد، إنَّها ثورة التواضع على الكبرياء، والحق على الباطل..
وهكذا أزال الله كل حاجز يعوق مجيئه إلينا، بفضل تواضعه العجيب وحبّه الفريد! لقد أزال حاجز الطبيعة بالتجسّد فضم إلى لاهوته طبيعتنا، حتى تتبارك وتشفى وتستنير بنور لاهوته وتعاليمه.
وانتصر على الخطية عندما حمل خطايا كل البشرية في جسده المقدس، وحرقها على مذبح الصليب بنار الغضب الإلهيّ، فعتقنا من عبوديتها المُرّة بعد أن أوفى الدين عنَّا " وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ صِرْتُمْ عَبِيداً لِلْبرِّ " (رو18:6).
أمَّا الموت فقد انكسرت شوكته وأُبطل سلطانه عندما قام المسيح منتصراً، فلم يعد بالشيء المُخيف كما كان، بل صار شهوة المؤمنين " لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً " (في23:1)، ربحاً كما قال مُعلمنا بولس الرسول: " لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ " (في21:1).
التجسّد بين الرفض والقبول
ويتساءل البعض: هل التجسّد ضروريّ في حكم الله؟ لا نُنكر أنَّ كثيرين لا يستوعبون العقائد المسيحية، فيقولون: لا لزوم مُطلقاً للتجسّد، ولا مانع أن يُخلّص الله البشر بمجرد الصفح عن الخطايا، وأصحاب هذا الاعتقاد يُنكرون لاهوت السيد المسيح، وهذا مخالف لتعاليم الكتاب المقدس وضد لزوم الكفارة..
ويوجد أيضاً الذين يؤمنون بأنَّ التجسّد ضروريّ ولابد منه، باعتبار أنَّ الله يطلب التجسّد طبعاً، سواء استدعى ذلك أحوال البشر أم لا، أي أنَّ الله لم يكتفِِ بالوجود المجرد عن التجسّد، لأنَّه لا يُعرَف لديّ البشر، ولا تظهر كمال صفاته بدون أن يتجسّد..
آراء كثيرة تدور حول سر التجسّد!! ولكننا نتساءل: أيهما أفضل وأقرب إلى المنطق: أن يظل الله منعزلاً في سمائه، بعيداً عن خلائقه، يأمر وينهي ويُعاقب.. أم أن ينزل إلينا ويتعامل عن قرب معنا، ليُخلصنا ويرفعنا على أجنحة حُبّه إلى عرش مجده؟!
نعترف بأنَّ التجسّد كان ضرورياً لخلاص الإنسان من عبودية الخطية، ولعنة الشريعة، والهلاك الأبديّ بسبب تمرده وعصيانه على الله.. فلولا التجسّد ما كان المسيح قد مات ليخلصنا! ولكي تُعرَف القصة يجب أن نرجع إلى بداية الخلق ونقول:
لقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، وقد أوصاه أن يأكل من جميع شجر الجنّة ما عدا شجرة معرفة الخير والشر، فإن خالف فموتاً يموت (تك17:2)، فأكل آدم فكان لابد أن يأخذ العدل الإلهيّ مجراه، لأنَّ " اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ " (مت35:24).
ولكنَّ الله العادل هو الله الرحوم أيضاً، فما هو الحل؟ هل يترك الله جبلته التي على صورته ومثاله خلقها؟ بالطبع لا، ولهذا تجسّد ابن الله لأنَّه الوحيد الذي يمكن أن يقوم بعملية الفداء، فخطية آدم موّجّهة ضد الله غير المحدود، فكان ولابد أن يكون الفادي أيضاً غير محدود، وبذلك التقت الرحمة والعدل وتحقق قول داود النبيّ "الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا، الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا" (مز10:85).
وهكذا تم التكفير عن خطايانا، وفُتِحَ باب الرجاء الأبديّ، وصار المسيح لنا وسيط لدى الآب يشفع فينا، ومرشداً يُرشدنا الى الحق، ومَلِكاً يحمينا ويدافع عنّا إلى نهاية حياتنا، ويضمنا أخيراً إلى رعيته السماوية، لكي نتمتع بحُبّه إلي دهر الدهور.
ورأينا مجد تواضعه
لقد أظهر لنا التجسّد الإلهيّ أنَّ إلهنا ليس أنانياً، بل هو محبَّاً يهمّه البشر وهدفه خلاصهم وسعادتهم لا سجود العبيد ونحر الذبائح وحرق البخور.. فمثل هذا الإله المنزوي في سمائه بعيداً عن خلائقه لا وجود له.
قد تقول: ولماذا هذا الإفراط في التواضع؟ فأُجيب: بأنَّ التواضع فضيلة ترفع من مكانة الله عند الإنسان، وهى لا تنقص من مجده، وهكذا أيضاً حُبَّه لا ينقص شيئاً عندما يفيض بالخيرات على الأبرار والأشرار كلاهما معاً؟ ولأنَّ التواضع فضيلة فقد انحنى المسيح أمام تلاميذه وغسل أرجلهم، فهو " لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ " (مت28:20).
والحق إنَّ يسوع فضّل التواضع على المجد، لكي يُعلّم الإنسان عظمة التصاغر وعلو التواضع، فهذا أعظم طريق للوصول إلى قلب الله.
وهكذا استطاع السيد المسيح بتواضعه الفريد، أن يجر العالم إلى عتبة مذود بيت لحم، فلا عجب إن خر ملوك وأُمراء عند مذوده، ملقين تيجانهم البالية على الأرض!
ولمسنا حُبَّه
إنَّ التجسّد أكد لنا أنَّ الله محبة ومن طبع المحبة أن تشقى لتُسعد الآخرين، تُولَد في القفر، وتحيا في الآلام، وتصعد كل يوم على الجلجثة، وتُسمّر على صليب الإنسانية، لكي تُكحّل عيونهم بأنوار الخلاص، فيعاين كل إنسان في داخله مسيحاً جديداً مدعواً لبذل حياته لأجل افتداء البشر!
كما أعطانا المسيح بوجوده على الأرض، مثال فريد للحياة البشرية الكاملة، فحياته كانت للآخرين بما فيهم الخطاة والمنبوذين.. الذين لا يخجل أن يقول لهم إخوتي، وهو لا يستقبلهم فقط، بل يذهب إليهم ويأكل ويشرب معهم: " يَا زَكَّا أَسْرِعْ وَانْزِلْ لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ " (لو5:19).
ويُعلن السيد المسيح حُبّه الفريد، عندما يقبل إليه الأطفال، ويبكي على قبر لعازر، ويذرف الدموع على أورشليم المُقبلة على الدمار، ويهتم بالبرص والعميان والعرج..
ألم يشفق على الجموع الضالة ويقول لهم: " تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ ؟ " (مت28:11)، ألم يشفِ المرضى وهو يعلم أنّهم سوف يتهمونه بخرق السبت؟! وفي آخِر نسماته يقول للص اليمين " إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ " (لو43:23) ويطلب من يوحنا أن يرعى أُمّه (يو19 :26،27)!
وأدركنا حكمته
لقد أظهر التجسّد حكمة الله في تعاملاته مع البشر، لنفترض أنَّك مُعلماً تُحِب تلاميذك وترغب نجاحهم، فماذا تفعل؟ تنزل إلى مستواهم وتشرح لهم المعلومات بطريقة بسيطة لكي يستوعبوها، وهذا ما فعله الله معنا، فلمّا رأى أنَّ البشر اتّجهوا بأنظارهم إلى أسفل، وأخذوا يبحثون عن الله في الطبيعة مدّعين لأنفسهم آلهة من البشر والشياطين والحيوانات.. اتّخذ جسداً وكإنسان عاش بين الناس، فحوّل أبصارهم إليه وركّز حواسهم في شخصه، وجعلهم لا يسيرون بحسب تعاليمهم الخاصة بل كما أعطاهم من وصايا وتعاليم روحية.
بركات أُخرى
عندما وُلِدَ المسيح تهللت السماء ورنّمت الملائكة أحلى التسابيح: " الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ " (لو2:12)، فكم يكون فرح الأرضيين الذين نبت الغفران في أرضهم لكي يكون عصاً للعالم الكهل، الذي أحنته الأيام من كثرة سجوده للأصنام؟!
لقد عادت فرحة البشرية من جديد بعد أن خيّم الحزن عليها سنينَ عدة، ولهذا عندما بشر الملاك الرعاة قال لهم: " َهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ " (لو10:2).
كما أنَّ ظهور الله بهيئة منظورة للبشر، أعطانا نعمة أن نخاطبه في الصلاة وندعوه " أبانا "، ونتّحد به بطريقة روحية فريدة بتناولنا من الأسرار المقدسة! وما هذا إلاَّ إعلان أنَّ التجسّد رفع من قيمة الإنسان، بعد أن صار يحيا لا بالخبز والماء فقط، بل بجسد ودم ابن الله.
وبعد أن كان الإنسان يحيا في الفردوس، صار يحيا قى قلب الله، والله يحيا في قلبه، لقد استرد الإنسان مُلكه الذي فقده بالخطية، وأصبح يحكم على الأشياء ليس بأهوائه الخاصة، بل بروح الله الساكن فيه " أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ " (1كو16:3)..