الفصل الخامس
أسباب الخطيـة
قد يُخطيء الإنسان مدفوعاً بأسباب كثيرة.. وهذه الأسباب إمَّا أن تكون داخلية أي مصدرها الإنسان نفسه.. وإمَّا أن تكون خارجية..
ويعد الجهل من الأسباب الداخلية التي تتسبب في سقوط الإنسان في الخطية، وهناك الجهل المقصود الذي صاحبه يعرف الحق، ولكنّه يتجاهله لأسباب في نفسه، وهناك الجهل الذي يأتي عفواً.
كذلك الغضب الممقوت يُعد سبباً آخر لسقوط الإنسان، وهو غالباً ما يقود الإنسان إلي عدة خطايا أُخري قد تنتهي في مواقف بالقتل أحياناً..
هذا بالإضافة إلي لذة الخطية، وهى كثيراً ما تجعل الإنسان ينس أشياء كثيرة أهمها محبة الله ووصاياه..
أمَّا الأسباب الخارجية فمنها الناس الأشرار الذين معاشرتهم تفسد الأخلاق الجيدة، وأيضاً إبليس الذي منذ البدء قتَّالاً للناس، وهو يسعى أن يُسقط جميع الناس.
كما أنَّ البعد عن الوسائط الروحية يُضعف من قوة الإنسان الروحية، ويجعله عرضة للسقوط في أي وقت.
ولا نُنكر وسائل العصر الحديثة من تليفزيونات وفيديوهات ودشات وشرائط كاسيت ومجلات.. نقلت لنا تطورات المجتمع الغربي العابثة بالقيم والمباديء الأخلاقية، وهي بلا شك ساعدت كثيراً في انتشار الإباحية والجنس بصورة لم تكن موجودة من قبل، وأدخلت لنا بعض المفاهيم الخاطئة التي أضرت بالكثيرين.
" هلك شعبي من عدم المعرفة "
( هو 6:4)
الجهل هو عدم المعرفة التي يجب علي الإنسان الإلمام بها في دائرة اختصاصه. إلاَّ أنَّ هناك معارف هامة يجب علي كل إنسان الإلمام بها مثل العلوم الدينية... وهي بالتأكيد لها دور هام في حياتنا الروحية، وتُعد كحصن يحمي الإنسان من سهام الخطية، وتقوده إلى الطريق الصحيح للحياة مع الله..
فسبب الجهل كاد أهل نينوي أن يهلكوا، أولئك الذين ما كانوا يعرفون يمينهم من شمالهم ( يون11:4)، وقد قال الله: " قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ أَرْفُضُكَ أَنَا حَتَّى لاَ تَكْهَنَ لِي. وَلأَنَّكَ نَسِيتَ شَرِيعَةَ إِلَهِكَ أَنْسَى أَنَا أَيْضاً بَنِيكَ " ( هو6:4).
يقول القديس إبيفانيوس
" النظر في الكتب حرز عظيم، وهو يمنع الإنسان من الوقوع في الخطية ويستميله إلي عمل البر، والجهالة بالكتب جرف سريع السقوط، وهوة عظيمة، إنَّ الذي لا يعرف النواميس الإلهية قد أضاع رجاء خلاصه ".
وهناك ما يعرف بالجهل المقصود، أو الجهل الاختياريَّ، والذي أصحابه يعرفون الحق، ولكنهم يتجاهلونه باختيارهم لسبب في نفوسهم مثل الذين يقتلون الأرملة والغريب ويُميتون اليتيم، ويقولون الرب لا يبصر، وإله يعقوب لا يلاحظ ( مز 94: 7،6)، وكما قال معلمنا داود النبي: " قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلَهٌ " ( مز1:14).
ويُعد قيافا من أصحاب الجهل المقصود، فهو اختار أن يكون جاهلاً برغبته! لأنَّه كان يعلم أن المسيح هو ابن الله وقد نطق بنبوته المشهورة: " خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا " ( يو11 : 50-52)، إلاَّ أنَّه عندما سأل المسيح: " أأنت هو المسيح ابن الله؟ " وأجاب المسيح بالإيجاب، تظاهر قيافا بالاشمئزاز من جوابه وحسبه تجديفاً، وقال أنه غير محتاج إلي شهود بعد، فحكموا عليه بصوت واحد بالموت ( مت26: 65-68).
وهناك جهل يأتي عفواً أيّ بدون قصد، وهو ما يعرف بالجهل غير الإختياريّ، كما حدث مع معلمنا بولس الرسول عندما كان يحتج أمام المجمع اليهودي، فلمَّا أمر رئيس الكهنة بضرب بولس قال له: " سَيَضْرِبُكَ اللهُ أَيُّهَا الْحَائِطُ الْمُبَيَّضُ! أَفَأَنْتَ جَالِسٌ تَحْكُمُ عَلَيَّ حَسَبَ النَّامُوسِ وَأَنْتَ تَأْمُرُ بِضَرْبِي مُخَالِفاً لِلنَّامُوسِ؟ "، ولما قال الواقفون: " أَتَشْتِمُ رَئِيسَ كَهَنَةِ اللهِ؟ "، قال بولس: " لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّهُ رَئِيسُ كَهَنَةٍ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: رَئِيسُ شَعْبِكَ لاَ تَقُلْ فِيهِ سُوءاً " (أع 23: 2-5).
وينطبق هذا الجهل علي الذين صلبوا المسيح، ولهذا قال وهو علي الصليب: " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " (لو34:23)، وقال عنهم معلمنا بولس الرسول: " لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْد " (1كو8:2).
وقد اعترف القديس بولس أنَّه بجهل غير مقصود اضطهد الكنيسة، فيقول لتلميذه تيموثاوس: " نَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إيمان " (1تي13:1).
هذا وقد اعتبر القديس مرقس الناسك الجهل أحد الثلاثة الجبابرة الغرباء الأشداء، وهو أصل كل الشرور، فيقول: " وها أنا أُحدثك عن ثلاثة جبابرة غرباء أشداء، يعتمد العدو عليهم في تشكيل وعمل قواته العقلية المضادة لنا، فإذا أفلحت في طرحهم وقتلتهم ينتهي مصير كل قوات الشر حتماً بالهزيمة، هؤلاء الجبابرة الثلاثة الذين من صنع الشرير هم:
1- الجهل: وهو أصل (أم) كل الشرور.
2- النسيان: أخ الجهل المساعد والمعضد له.
3- الكسل: وهو يحيك من الظلمة رداء وغطاء يطمس به النفس.
والبابا أثناسيوس الرسوليّ يعتبر الجهل والموت والخطية مرتبطين معاً فيقول: " هذه الثلاثة: الجهل والموت والخطية مرتبطة معاً بعضها ببعض وكل واحدة تعزز وتقوي الأُخريين ".
أمَّا الوحي الإلهي: فقد حدثنا عن العقاب الشديد الذي سيُصيب الجهال، فيقول سليمان الحكيم: " اَلْقِصَاصُ مُعَدٌّ لِلْمُسْتَهْزِئِينَ وَالضَّرْبُ لِظَهْرِ الْجُهَّالِ " (أم29:19).
ومعلمنا داود النبيّ يقول: " وَالْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ وَمِنْ آثَامِهِمْ يُذَلُّونَ كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ وَاقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ الْمَوْتِ " ( مز107: 17،18).
ومعروف أن العقاب جزاء لكل خطية،
وهذا الجهل له عقابه فهو إذن خطية.
يقول مار إسحق
" ثمّة خطية ينجذب إليها الإنسان مكروهاً نتيجة ضغط ما، والثانية يفعلها بإرادته عن جهل، والثالثة تحصل لسبب عابر، وأُخري تتم بالاعتياد علي الشر وإلقاءه فيها، ورغم أنّها تستحق الذم مجتمعة، إلاَّ أنَّ عقوبة كل منها تختلف عن الأُخرى.
لكن إن كان الجهل أحد مسببات الخطية، فالمعرفة والثقافة الروحية تعد من أقدر الوسائل للسيطرة علي الخطية، وفي هذا يقول مار غريغوريوس المُلقب بابن العبريّ:
" الشغف بمحبة العلم من أقدر الوسائل لاستئصال العادات الرديئة من النفس، وطالب العلم الديني ليبدأ بدراسة سفر المزامير، ثم يتدرج فيدرس أسفار العهد القديم، فالعهد الجديد، ثم يتثقّف بكتب العلماء ".
أمَّا القديس إكليمنضس السكندري فيقول: " إذا كانت الظلمة هل الجهل الذي من خلاله نسقط في الخطية غير مبصرين للحقيقة، فالمعرفة إذاً هي النور الذي نحصل عليه والذي يجعل الجهل يختفي ".