الفصل الرابع
سلطان وقيود وسلسلة الخطية
للخطية سلطان، وسلطانها قوي، فأمام سلطان الخطية يخر الأبطال لأجل سيجارة يدخنونها، أو لأجل كأس خمر يرتشفونه، أو لأجل لذة يطفئون بها نار شهواتهم!!
فالخطية هي التي جرحت وأذلت كثيرين، ولهذا لم يفلت منها أحد، وكم من العشاق سكبوا أنفاسهم بين طيات أثواب الخطاة، وعلى أقدمهم هرق جبابرة قطرات دموعهم، وبين أيديها المُعطّرة بكل ما هو فاسد وضع رجال تنهدات أشواقهم، وهكذا صـاروا يتنقلون من شـهوة إلى شهوة حتى انتهت حياتهم بالفناء!!
كما أنَّ الخطية تغري محبيها، وتعدهم بآمال كثيرة.. حتى إذا سقطوا تُقيدهم بقيودها الآثيمة، أمَّا قيودها فكثيرة ومتنوعة، فهناك من تقيَّده بحبال الزني كالمرأة السامرية، وآخر تقيَّده بحبال البخل ومحبة المال كالشاب الغنيّ، وثالث تقيّده بقيود العظمة والكبرياء كهيرودس الملك، هؤلاء غير الذين تُقيّدهم بقيود السرقة أو القتل أو إدمان المسكرات.. وهى قيود تبدوه أنّها ضعيفة في نظر كثيرين، ولكن ما أصعب فك قيود الخطية!!
وغالباً ما تقود الخطية الخاطيء إلي خطايا أُخري، لأنَّ الخطايا سلسلة متماسكة، فكل خطية تسلّم الخاطيء إلي الأُخري، فمثلاً: السكر يقود إلي الزنى.. والزنى يقود إلي الخيانة والغدر الذي يقود إلي القتل أحيانا، وهكذا...
" من يعمل الخطية هو عبد للخطية "
(يو 34:8)
إنَّ سلطان الخطية حقيقة لا يُنكرها أحد.. وكل من ينظر إلي سيرة بني جنسه، ويفحص بدقة قلبه.. يقر أنَّ الخطية تملّكت علي جميع بني البشر، لأنَّها تغلغلت وتسلسلت في ذرية آدم.
لقد صار الجميع عبيداً لها، وأسري يخضعون لأوامرها، لأنَّهم قد زاغوا وفسدوا، ولم يعد أحد منهم يفعل الصلاح( رو12:3)، وقد برهن السيد المسيح علي ذلك بقوله: " الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ " ( يو34:8).
يقول القديس مكاريوس
" إنَّ العالم مستعبد لشهوة الخطية وهو لا يدري بها، وهناك نار نجسة تشعل القلب وتنتشر إلي كل الأعضاء، وتحث الناس علي فعل الشهوات وعلي أُلوف خطايا أُخري ".
يحق لنا أن نقول: إنَّ شوكة الخطية قوية جداً، ولم تقدر أي قوي علي ردعها، ولهذا قال البعض:
غمر الطوفان العالم الأول ولم يغرقها!
ونزلت النار علي سدوم وعمورة وأحرقتها ولم تحرقها!
فتحت الأرض فاها وابتلعت القوم الأشرار ولم تبتلعها!
انفجرت البراكين وأخرجت مقذوفاتها ولم تقذفها!
وبالإجمال
فإنَّ كل الطرق والمحاربات معها لم تغلبها.
لأنَّها تملّكت علي قلب الإنسان وتحصّنت فيه.
وصيرته منبعاً لكل إثم حتى إنّه صرخ متأوّهاً بألم شديد قائلاً:
" وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟ "
(رو24:7).
ويُعلن لنا سليمان الحكيم سلطان الخطية في آية شهيرة له إذ قال: " طَرَحَتْ كَثِيرِينَ جَرْحَى وَكُلُّ قَتْلاَهَا أَقْوِيَاءُ " ( أم26:7)، ولهذا لم يفلت منها أحد، فالملوك كفرعون، والجبابرة كجليات، والمشيرين كأخيتوفل، والأنبياء كداود، والحكماء كسليمان، والرسل كيهوذا... كلهم سقطوا تحت نيرها.
وليس البشر هم فقط الذين سقطوا في الخطية، بل الملائكة الروحانيين، منهم من غلبتهم وأسقطتهم من رتبتهم، وصاروا يحملون اسم الشياطين أيّ المقاومين أو المعاندين، وقد كان سقوط الملائكة هو ميلاد الشر في العالم!!
ومن شدة تسلّطها علي الإنسان، جعلته يكره القداسة، ويحب حياة النجاسة، يستثقل الوصايا، ويستخف الأفعال الشهوانية، كما أنّه يستصعب السير في طريق البر، في الوقت الذي يستسهل فيه الجري في طريق الإثم.
قد يُستعبَد إنسان لسيد ما، ولكن قد يأتي يوم ويُعطيه هذا السيد حريته.. أمَّا الخطية فهي السيد الوحيد الذي لا يقبل أن يُحرر عبيده لأنَّه سيد شرير وظالم، مهما خدمته وأوفيته مطالبه لن يتركك! وإن هربت منه سيلاحقك أينما ذهبت!