يُحكي أنَّ موظفاً أدمن شرب الخمر، فضعُفت قواه العقلية، ولمَّا ظهرت عليه علامات الاختلال وعدم الدقة، طُرد من العمل فأصبح عاطلا، وإذ كان مسرفا افتقر وساءت حالته.. وقد كان ذلك سبباً لوفاة زوجته، التي تركت له ابنة لا تتجاوز من العمر سنتين.. إلاَّ أنَّها هي الأُخرى توفيت بعد زمن قصير بسبب إهمال والدها لها!!
فلمَّا علم كاهن الكنيسة التي كانت بجوار هذه الأسرة أنَّ الطفلة قد ماتت، ذهب مع أحد الأتقياء واشتروا كفناً وذهبا إلي منزلها لتكفينها، فحالة الرجل المادية، وأخلاقه المتدنية، وإهماله لأُسرته لم تعد خافية على أحد!!
لكن قبل دفنها رأى الكاهن أنَّه من المستحسن، أن يترك والد الطفلة أمام الجثة وقتاً، لَعَلَّه يتأثر بمنظرها ويتوب، فإهماله لها هو الذي عجَّل بموتها! وبالفعل تركوه وأغلقوا الباب ورائهم.. ثم بعد مضي ربع ساعة عادوا إلى الجثّة وحملوها إلى المقبرة..
لكنّهم لاحظوا وهم يسيرون أنَّ والد الطفلة لو يكن ضمن المشيعين لجنازة ابنته.. فلمَّا رجعوا بحثوا عنه فوجدوه في الخمَّارة مُلقى من السكر! فسألوا صاحب الخمَّارة: من أين أتاك بالنقود التي أعطيته بها خمراً؟ فأراهم حذاء أبيض وهنا كانت المفاجأة المذهلة التي لا يتوقعها إنسان، ففي الوقت الذي ترك الكاهن الوالد أمام جثّه ابنته، كان يقلبها لعله يجد شيئاً ينتفع به! فلمَّا وجد الحذاء الذي كان ضمن أدوات الكفن، انتزعه من رجليها لكي يبيعه ويسكر بثمنه!!
إلى هذه الدرجة تُميت الخطية
الأحاسيس من قلب الإنسان؟!
" وَأُضَايِقُ النَّاسَ فَيَمْشُونَ كَالْعُمْيِ لأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَى الرَّبِّ "
(صفنيا17:1)
ماذا يحدُث لو رأيت إنساناً أعمي؟ لابد أنّك ستشفق عليه، أمَّا إذا رأيته وقد عاد إليه البصر، فأعتقد أنَّ قلبك سيمتليء بالفرح والسرور، علي أنَّ هناك عمى من نوع آخر، ويحتاج إلي إشفاق أعظم وعطف أكثر، والخلاص منه يدعو إلى سرور أوفر، ألا وهو: عمى القلوب!! الذي يُصيب كل الذين يعيشون في الخطية.
وعن هذا العمى تنبأ الأنبياء، عندما أعلنوا أنَّ السيد المسيح سيأتي ليهب النظر للعميان، فقد قصدوا بذلك العمى الباطني أكثر من عمى العينين الخارجيّ، لأنَّ المسيح لم يهب النظر إلاَّ لقلة من البشر، في حين أنَّه منح بصيرة الروح وأنار قلوب لأعداد لا حصر لها.
وإشعياء النبيّ عندما نطق بهذه النبوة: " وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ، لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ " (إش6:42،7)، إنَّما كان يتنبأ عن ذلك العمل العجيب، الذي كان المسيا مزمعاً أن يعمله في القلوب التي قد أظلمتها الخطية، وجعلتها غير قادرة أن تري النور.
يقول البابا أثناسيوس الرسوليّ
" إنَّ الخطية استشرت في جذور الإنسان، والخطية أدّت إلى عمى الإنسان الروحيّ ".
فالخطية إذن تُعمي القلوب عن رؤية أشياء كثيرة لَعَلَّ أهمها:
رؤية الرب
جاء السيد المسيح إلى عالمنا، لكي يقرع أبواب قلوبنا الحديدية، وقد استطاع بمجيئه أن يفتح لنا باب الشركة القلبية بين النفس والله، إذ قال: " إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً " (يو23:14).
وعن هذه الشركة قال معلمنا يوحنا الحبيب: " وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ " (1يو3:1).
لكن الحياة مع الله تستلزم القداسة، ولهذا كتب مُعلّمنا بولس الرسول في رسالته إلي العبرانيين يقول: " اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ " (عب14:12)، وهو بذلك قد وضع القداسة شرطاً لرؤية الرب.
وهل يمكن للنور أن يلتقى مع الظلمة؟! فالخطية ظلمة دامسة، وهى تنسج حجاباً كثيفاً، يفصل بين النفس والله، فتعميها عن رؤية الرب ومجده، وقد أوضح هذه الحقيقة إشعياء النبي: " آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ (إش2:59).
وكم تستر الخطايا وجه الرب عن قلوب كثيرين " الَّذِينَ فِيهِمْ إِلَهُ هَذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ " (2كو4:4).
رؤية الأبدية
بعد الموت حياة أبدية " فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ " (مت46:25)، وهذه حقيقة لا ينكرها إلاَّ الملحدين الذين يُنكرون القيامة والحياة بعد الموت!! وأعتقد أن العقل يرفض فناء الإنسان الذي خُلق على صورة الله!!
ومع أننا نري الأحياء وهم يُخطَفون من بيننا ويوارون التراب، ورغم أننا نسمع رنين أجراس الكنائس وهي تدق نغمات الحزن، ونشترك في تشييع الموتى إلي مقرُّهم الأبديّ.. إلاَّ أننا لا نتأثر!! لأنَّ الخطية أعمت قلوبنا عن رؤية الأبدية وأمجادها العتيدة.
لكنَّ المؤمن الحقيقيَّ هو الذي يعيش علي الأرض، وفي نفس الوقت يضع الحياة الأبدية والأمجاد السماوية أمام عينيه " وَأَيْضاً جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللَّهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ " (جا11:3)،
والحق إنَّ التأمل في الأمجاد السمائية، يجعل نفس المؤمن تتعزى وروحه تتهلل، فيحتمل آلام الزمان الحاضر بكل فرح، لأنَّه متيقن أنَّها لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فيه (رو18:8)، وعندما يدنو منه الموت لا يفزع، ولكنه يتهلل ويُشرق وجهه كما تهلل إسطفانوس عند موته، إذ رأي السماء مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الآب فاتحاً له زراعيه لاستقباله (أع 56:7).
أمَّا الخطاة فلا يبصرون مجد السماء، ولهذا عندما يسمعون عن الأبدية يرتعبون كما ارتعب فيلكس الوالي أمام بولس الرسول: " ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَ فِيلِكْسُ مَعَ دُرُوسِلاَّ امْرَأَتِهِ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ، فَاسْتَحْضَرَ بُولُسَ وَسَمِعَ مِنْهُ عَنِ الإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ، وَبَيْنَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ عَنِ الْبِرِّ وَالتَّعَفُّفِ وَالدَّيْنُونَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَكُونَ ارْتَعَبَ فِيلِكْسُ وَأَجَابَ: أَمَّا الآنَ فَاذْهَبْ وَمَتَى حَصَلْتُ عَلَى وَقْتٍ أَسْتَدْعِيكَ " (أع24:24،25)، لأنَّ خطاياهم أعمت قلوبهم عن رؤية تلك الأمجاد السماوية، وضمائرهم المثقلة بالشرور اقتلعت من قلوبهم كل رجاء في الأبدية.