ولهذا كثيراً ما ينجح الرجل البسيط التلقائيّ في تكوين علاقات طيّبة مع غيره من الناس، لأنَّه يتعامل معهم بصفاء طبيعيّ، ويتذوق حياة التعاطف والصداقة على نحو تلقائيّ، بينما يبقى الإنسان الذاتي عاجزاً عن تحقيق أى تواصل حقيقيّ بينه وبين غيره، لأنَّه لا يكُف بحثاً عن منفعته أو شهوته، دون أن يعمل أى حساب للمحبة أو الواجب أو الصداقة.. ولعل هذا هو السبب في أنَّ حياة كثيرين من الناس البسطاء، هى حياة اجتماعية سويّة، تقوم على روابط طبيعية من المودة، بينما تبدو حياة غيرهم من أهل النفعيّة والمصالح الخاصة.. حياة انعزاليّة أهم سماتها القلق!
لا تتعجبوا إنَّ قلت لكم: إنَّ الرجل الأنانيّ لا يُحِب نفسه بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، بل يُحِبها بطريقة خاطئة، مُدمّرة، ربَّما تقوده إلى الهلاك! فالأنانية سلوك يقوم على الانشغال بالذات، دون أن يكون وراء هذا السلوك أيّ حُب حقيقيّ للذات! ولذلك فالإنسان العاجز عن حُب نفسه، عاجز أيضاً عن حُب الآخرين، والدليل:
إنَّ الانشغال المَرَضٍيّ بالذات، يجعل الإنسان عاجزاً عن الخروج بعيداً عن نفسه، وهذا الانشغال الدائم بالنفس يقف حاجزاً بينه وبين الآخرين، ويعوق تعلّقه بهم، وتوثيق أواصر المحبة بينه وبينهم! وقد أوضح لنا هذه الحقيقة السيد المسيح عندما قال: " أَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ " (مت19:19).
إذن هناك ما يُعرف بحُب النفس، ولولاه ما استطاع الإنسان أن يُحِب غيره! ويبقى السؤال الحائر: ما هو المفهوم الحقيقيّ لحُب النفس؟ هل هو تحقيق رغباتها الشريرة والاستجابة لميولها الشهوانية؟!
إنَّ المفهوم الحقيقيّ لحُب الذات هو تحقيق رغباتها الحسنة، لا الرغبات القاتلة التي تقودها للهلاك، وحثّها على حياة الفضيلة، وتوطيد علاقتها بالله من خلال الصلاة والصوم والعمل بوصاياه... وأعتقد أنَّ كل من يسمو بذاته نحو الأفضل حتماً سيخرج من قوقعته الذاتية، وينفتح نحو الآخرين، فيُحِبهم ويخدمهم ولا يعمل ما يضرّهم، وهنا نتذكر قول السيد المسيح: " مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ " (يو25:12) فماذا كان يقصد بهلاك النفس؟ أعتقد عدم الاستجابة لرغباتها الشريرة التي تقودها إلى الهلاك!
وتتجلى محبة الذات بكل وضوح في سن المراهقة، فالمراهق كثيراً ما يرتدي أقنعة غيره، مبرزاً جماله أو قوته أو رقته أو ذكاءه، وأحياناً حزمه وصرامته... لا لشيء إلاَََّ لكي يستعرض ذاته على الجنس الآخر، الذي يتطـلّع إليه على أنَّه المِِرآة التي تكشف له ذاته! وعندما يستحوذ على قلب فتاة، ففي الحال يفرض عليها نفوذه، ويعاملها تارة بالرقة وتارة بالعنف، وفى كل هذا لا يطلب ما لبنائها، بل ما يؤكد ذاته! وبنفس الروح تُمارس الفتاة المراهقة ما تُسمّيه حُباً، لكي تسيطر على المراهق، لا من أجل رغبة جسدية – فى كل المواقف - وإنَّما بالأكثر للاستحواذ على قلبه، وتأكيد ذاتها بين زميلاتها!