سادسًا: ما بالسفر من تعليم:
وسنعرض فيما يلي ملخصًا لما ورد به من علوم اللاهوت، والأنثروبولوجيا، والأخلاق والعقائد عن الخطة والخلاص والأخرويات.
(1) اللاهوت: المقصود بعلم اللاهوت هو التعليم المختص بالله. ونجد في سفر الحكمة أن الله كلي القدرة: "بل قد كان نفس كافيًا لإسقاطهم... لكنك رتبت كل شيء بمقدار وعدد ووزن، وعندك قدرة عظيمة في كل حين، فمن يقاوم قوة ذراعك؟" (11: 21 و22)، وهو موجود في كل مكان (7:1، 12: 1)، وكلي الرحمة والمحبة "لكنك ترحم الجميع... وتتغاضى عن خطايا الناس لكى يتوبوا" (11:24) وقد صنع العالم من مادة لا شكل لها: "يدك التي صنعت العالم من مادة غير مصورة" (11: 18).
وأرقى مفهوم عند الكاتب عن الخليقة هو تحول "الخراب" (chaos) إلى "كون منظم" (Cosmos). وما بهره إنما هو نظام الكون وجماله، وليس القوة غير المحدودة اللازمة لخلق هذا الكون من العدم (حكمة 11: 18، 3:13 و4).
ومع أن الله - كتعليم سفر الحكمة - عادل (14:12-16) ورحيم (18:11- 23، 15: 1، 7:16) كما أنه يخاطبه بالقول. "أيها الأب" (3:14)، إلا أن الله قد اختص اليهود برعايته وحمايته بطريقة فريدة (16: 2، 8:18، 19: 20)، بل إن الكوارث والمصائب التي يصبها الله على رؤوس أعدائهم، إنما هو يقصد من ورائها قيادتهم إلى التوبة (12: 2- 20). ويتضح جليًا من الأصحاح الحادي عشر أن آلام ومعاناة بني إسرائيل إنما كانت علاجًا وإصلاحًا لهم، أما بالنسبة لأعدائهم فكانت عقابًا (الأصحاحان 11، 12).
ومفهوم سفر الحكمة عن "الله" يتفق بوجه عام مع تعليم العقيدة اليهودية السكندرية (100 ق. م.) أي أنها تؤكد تأكيدًا جازمًا سمو الله وعلوه المتناهي عن اللإنسان وعن العا لم المادي، ولذلك نجد في هذا السفر بداية عقيدة "الوسطاء" التي ظهرت في كتابات فيلون، أي المجالات التي يستطيع من خلالها "الواحد المطلق" أن تكون له علاقة محددة مع الإنسان.
(أ) "روح الرب": تُستخدم عبارة "روح الرب" في سفر الحكمة كما في الأسفار المتأخرة من العهد القديم (في أثناء السبي وبعده) بمعنى الله ذاته، فما يعمله الله إنما يعمله بواسطة الروح، لذلك فإن روحه هو الذي يملأ العالم ويحفظه ويرقب أعمال الناس: (روح الرب ملأ المسكونة وواسع الكل عنده علم كل كلمة فلذلك لا يخفي عليه ناطق بسوء) (7:1 و8). وهو موجود في كل مكان (12:1). ولكن سفر الحكمة لا يجسد روح الله جاعلًا منه وسطًا بين الله وخلائقه، ولكن الطريق أصبح ممهدًا لتلك الخطوة.
(ب) الحكمة: الكثير مما يقال في هذا السفر عن "روح الرب" يقال أيضًا عن "الحكمة" بل إنه يزداد اقترابًا من تجسيد الحكمة. فعند خلق العالم كانت الحكمة مع الله "جالسة إلى عرشه"، عليمة بأفكاره، مشاركة له (حكمة 3:8، 9: 4 و9، انظر أم 22:8- 31). وهي التي صنعت كل شيء وعلمت سليمان الحكمة التي طلبها في صلاته (7: 21). وهي كلية القدرة، وترى كل الأشياء (23:7)، "تنفذ في كل شيء" (24:7)، وهي فيض مجد القدير (7: 25)، تعلم الناس "العفة والفطنة والعدل والقوة" (8: 7) (وهذه هى الفضائل الأربع الرئيسية في الفلسفة الرواقية).
(ج) الكلمة (لوجوس): والكلمة "عند فيلون" هو القوة الوسطية التالية للاله. أما سفر الحكمة فيلتزم بالمعنى الوارد في العهد القديم من أن "الكلمة" (اللوجوس) هو الكلام الذي يخاطب به الله الناس.
إلا أن "جفرورر" (Gfrorer) وفيلون وغيرهما يرون أن "الكلمة" (اللوجوس) لها نفس المعنى الفني الدقيق الذي يراه فيلون (حكمة 9: 1 و2، 12: 9، 16:12، 18: 22) إلا أن الدراسة المتأنية الدقيقة لتلك الآيات تبين أنه لم يقصد بها أكثر مما تعنيه كلمة "الكلمة" (اللوجوس).
والكائنات- التي فوق البشر - المذكورة في هذا السفر هي آلهة الأمم التي يعلن السفر بوضوح أنها أوهام من صنع حماقات الإنسان، فهي الأصنام لم "تكن في البدء وليست تدوم إلى الأبد" (14: 13و 14). وكذلك "الشيطان " الذي لم يشر إليه هذا السفر إلا مرة واحدة باعتباره الحية المذكورة في الأصحاح الثالث من سفر التكوين. ولم يذكر السفر - ولو مرة واحدة - الأسفار المقدسة القانونية أو الوحي الإلهي للإنسان في صورة مكتوبة، مع أنه اقتبس الكثير من الآيات من الأسفار الخمسة، وأحيانًا من "إشعياء والمزامير"، لكن دون أن يذكر مصدر اقتباساته.
وهكذا نجد أن سفر الحكمة "أكثر شمولًا ويتسق مع سائر كتابات الحكمة أكثر من سفر يشوع بن سيراخ الذي يطابق بين الحكمة والشريعة والأنبياء، وبه الكثير من الملامح اليهودية المميزة.
(2) علم أصل الإنسان (أنثروبولوجيا): يتبع سفر الحكمة في سيكولوجيته نظرية الثنائية الأفلاطونية، فالإنسان مكون من جزءين أو عنصرين: نفس وجسد (4:1، 19:8 و20، 9: 15) وتشمل كلمة النفس كلًا من "العقل والروح".
ويبدو للبعض أن ثمة مفهومًا بأن الإنسان ثلاثي العناصر (حكمة 15: 11)، ولكن هذه العبارة لا تدل - في الحقيقة - على شيء من ذلك إذ أن المقصود "بالنفس والروح " هنا شيء واحد. كما يعلم فيلون نفس الشيء. والله هو الذي "ينفخ النفس" في الجسد (15: 11، انظر تك 7:2)، ثم يسترد الله تلك النفس مرة أخرى (حكمة 15:8).
كما يتبنى الكاتب نظرية "أفلاطون " عن الوجود السابق للنفوس (8: 20، 15:8 و11 و16). ويتضمن ذلك الاعتقاد نوعًا من "التعيين السابق" لأن الأعمال التي عملتها النفس سابقًا تحدد نوع الجسد الذي تدخله فيما بعد، ولأن نفس "سليمان" صالحة دخلت في "جسد غير دنس" (8: 20).
ولا نوافق ر. ه. تشارلز (R-H-Charles) فيما يراه في كتابه "الاسخاتولوجي" من أن سفر الحكمة يقول بأن المادة خاطئة في طبيعتها (1: 4، 9: 15). كما نادى "فيلون" أيضًا بهذا الرأي مستشهدا بالمقولة المعروفة عن "هيراقليتس" (Heraclitus) إن "الجسد قبر" وإن الإنسان شرير بالطبيعة مولود بالاثم (12: 10، 13: 1)، لكنه إن أخطأ فهذا شأنه لأنه حر الإرادة (6:1، 6:5 و13).
ويستعير الكاتب كلمتين من الشعر اليوناني والفلسفة اليونانية تبدوان وكأنهما تنفيان حرية الإنسان، هما "الضرورة" و"العدالة" (أو العدالة المنتقمة). فالضرورة تعمي عين المنافق (17:17)، لكنه عمى نتيجة المسلك الشرير (19:1- 5). أما الكلمة الثانية "العدالة" فقد استخدمت في الفلسفة اليونانية بمعنى الانتقام، لها نفس هذا المعنى في سفر الحكمة، فهي "القضاء المفحم" (1:8). وفي كل أجزاء سفر الحكمة نجد أن عقاب الخطية أمر يستحقه الإنسان طالما أنه حر.
يعتقد كاتب سفر الحكمة بوجود نوعان: الصالح (الحكيم)، والشرير (المنافق)، ويري - على عكس ما نراه في الأسفار المتأخرة في العهد القديم - إمكانية انتقال الشخص من نوع إلى النوع الآخر.
ولكن ألا تبدو - في بعض أجزاء سفر الحكمة، كما في سائر أسفار العهد القديم - محاباة الله لإسرائيل مع إهمال الشعوب الأخرى؟ فإسرائيل هو "ابن الله" (13:18)، وأبناؤه (12: 19- 21، 16:10 و26)، "أبناؤه وبناته" (7:9)، "وشعبه المقدس والمختار" (3: 9، 4: 15، 17:10، 18: 1 وه). لكنه لم يعاملهم هكذا لمجرد أنهم إسرائيليون فحسب، بل لأنهم كانوا أفضل أخلاقًا من الشعوب المحيطة بهم.
(3) علم الأخلاق: يشمل هذا الموضوع الممارسات الدينية والأخلاقية:
(أ) وكما ينتظر من سفر محوره الحكمة، لا نجد إلا اهتمامًا ضئيلًا بشريعة موسى ومتطلباتها. ورغم وجود إشارات تاريخية لتقديم الذبائح وترتيل المزامير والالتزام بعهد الشريعة: "فإن القديسين بني الصالحين كانوا يذبحون خفية ويوجبون على أنفسهم شريعة الله هذه أن يشترك القديسون في السراء والضرأء على السواء، وكانوا يرنمون بتسابيح الآباء" (18: 9). وفضلًا عن ذلك، هناك إشارة إلى تقديم هرون البخور (18: 21). كما يتردد ذكر بعض الكلمات مثل "الهيكل" و"المذبح" و"المسكن" (8:9). ولكنا لا نجد أي تفصيل عن الهيكل أو عن أعياده أو الكهنوت أو الذبيحة، أو عن شريعة "الطاهر والنجس". لكن هناك تأكيدًا مستمرًا وشديدًا على وجوب عبادة الله الواحد الحقيقي لا سواه، والنتائج الشريرة لعبادة الأصنام، وبخاصة في القسم الثاني التاريخي من السفر (11: 5- 19: 20).
(ب) أما الفضائل الأربع الأساسية المذكورة في قسم الحكمة من السفر فهي تتفق مع الفلسفة الرواقية، وهي بالتحديد العفة والفطنة والعدل والشجاعة، مما يدل على أن الكاتب كان متأثرًا بالفلسفة اليونانية.
(4) عقيدته عن الخطية: يذكر الكاتب ما جاء في سفر التكوين (الأصحاح الثالث) كحقيقة تاريخية مؤكده عن دخول الخطية إلى العالم: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حكمة 24:2). ويبدو من سياق الحديث أن الكاتب يقصد بالموت "الموت الروحي". ولكن أصل الخطية هو عبادة الأوثان (14: 27). ولعله يقصد بذلك أن الخطية تصدر عن عدم تقديم الاعتبار للإله الواحد الحقيقي، وأن كل الفظائع الأخلاقية في زمانه، كانت تنبع من العبادات الوثنية.
ويقرر سفر الحكمة - تصريحًا وتلميحًا - أن الإنسان حر، وذلك في كل أجزاء السفر.
(5) عقيدة الخلاص (سوتيريولوجيا): لا يذكر سفر الحكمة شيئًا عن "المسيا" الذي سيخلص شعبه، لأن الحكمة هي التي تخلص الإنسان: "وأنال بها الخلود" (8: 13)، و"إن في قربي الحكمة خلودًا" (8: 17). وكل من يرعى وصايا الحكمة في قلبه يحصل بالتأكيد على الطهارة، والطهارة تقرب الناس إلى الله (19:6 و20). أما معرفة القدرة الإلهية فأساس الخلود (15:2 و3).
(6) الأخرويات (الإسخاتولوجي): يقرر السفر بوضوح عقيدة خلود الإنسان: "إن الله خلق الإنسان خالدًا" (23:2)، وخلقه لعدم الفساد (6: 19، 12: 1)، والبار له الرجاء الكامل في الخلود (3: 4)، فههو سيحيا إلى الأبد (5: 16). أما الأشرار فلا رجاء لهم عند موتهم (3: 18) لأنهم سيتألمون بسبب خطاياهم، في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضًا (16:3 و18).
ولا يذكر سفر الحكمة شيئًا عن قيامة الأجساد، فلو أن كاتب السفر كان يعتنق رأي "فيلون" عن الشر المتأصل في المادة (كما سبق القول)، فلا يمكن أن يؤمن بقيامة الأجساد. ولكن يوجد بعد الموت "يوم للحساب" (حكمة 3: 18 - وهي نفس كلمة "فحص" المذكورة في سفر الأعمال 25: 21). كما سيكون هناك فحص لمشورة الأشرار، وسيعطي الأثيم حسابًا عن خطاياه إذ "يتقدمون فزعين من تذكر خطاياهم" (4: 20). أما الصديق فيقف بجرأة عظيمة في وجوه مضايقيه: "حينئذ يقوم الصديق بجرأه عظيمة في وجوه الذين ضايقوه، وجعلوا أتعابه باطلة" (5:1).
ويبدو أن تعليم السفر عن مصير الصديق غير ثابت، فبينما يقول: إن الصديق ينتقل بالموت مباشرة إلى نعيم الله "فلا يمسها العذاب" (3: 1و 2)، نجده في موضع آخر يذكر أن الأشرار والصديقين سيجتمعون معًا في مكان واحد انتظارًا للدينونة (20:4 مع 5:1).