لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ
يقول إشعياء النبي قرب نهاية السفر المبارك مخاطبًا الرب الإله: "لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ! مِنْ حَضْرَتِكَ تَتَزَلْزَلُ الْجِبَالُ. كَمَا تُشْعِلُ النَّارُ الْهَشِيمَ وَتَجْعَلُ النَّارُ الْمِيَاهَ تَغْلِي لِتُعَرِّفَ أَعْدَاءَكَ اسْمَكَ لِتَرْتَعِدَ الأُمَمُ مِنْ حَضْرَتِكَ. حِينَ صَنَعْتَ مَخَاوِفَ لَمْ نَنْتَظِرْهَا نَزَلْتَ. تَزَلْزَلَتِ الْجِبَالُ مِنْ حَضْرَتِكَ. وَمُنْذُ الأَزَلِ لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصْغُوا. لَمْ تَرَ عَيْنٌ إِلَهًا غَيْرَكَ يَصْنَعُ لِمَنْ يَنْتَظِرُهُ" (إش64: 1-4)
ونقول نحن في القداس الباسيلي مخاطبين الآب السماوي: {وفى آخر الأيام ظهرت لنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت بالظهور المحيى الذي لابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، هذا الذي من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم تجسد وتأنس} (بداية صلوات التقديس).
ما ورد في الفقرة المذكورة من سفر إشعياء هو نبوات واضحة عن ظهور الله على الأرض بتجسد ابنه الوحيد الجنس الرب يسوع المسيح. وسوف نرى ما في هذه العبارات من معانٍ نبوية.
"لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ" (إش64: 1) لا نستطيع أن نفهم هذه العبارة إلا في ضوء نزول الابن الوحيد من السماء وتجسده وتأنُسّه من القديسة مريم العذراء.
لهذا نقول في قانون الإيمان عن السيد المسيح: [هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء تأنس].
والنبي إشعياء يتوسل إلى الله أن يأتي إلى عالمنا المحتاج إلى الخلاص فيقول "لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ".
كان هناك حاجزًا بين السماء والأرض يفصل بين الإنسان والله. وقد بدأ الله الآب يشق هذا الحاجز حينما أرسل ابنه الوحيد إلى العالم كقول بولس الرسول: "لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" (غل 4: 4-5). لهذا صلى القديس سمعان الشيخ حينما حمل الطفل يسوع المسيح على ذراعيه وبارك الله قائلًا: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ. لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ. الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيل" (لو2: 29-31).
بدأ الله في شق الحاجز حسب التدبير في قصده؛ ولكن أعلن ذلك بصورة ملموسة في واقع الأحداث عندما انشق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل وقت أن سلّم السيد المسيح روحه البشرى الطاهر المتحد باللاهوت على الصليب؛ صانعًا الفداء، ومصالحًا الآب مع البشرية إذ أن "اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (2كو5: 19).
ولكن إشعياء النبي اعتبر نزول السيد المسيح إذ أخلى نفسه آخذًا صورة عبد هو نوع من انشقاق للسماء لكي ينزل الرب الإله و"يَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الذي تفسيره الله معنا" (مت 1: 23). ولا يمكن أن نفصل التجسد عن الصليب والفداء، ولا عن القيامة والصعود، لأن هذا هو عمل الفداء الخلاصي المتكامل.
وليس ذلك فقط، فقد انشقت السماوات على مرأى من يوحنا المعمدان عند عماد السيد المسيح في نهر الأردن وحل الروح القدس على رأسه بهيئة جسمية مثل حمامة وصوت الآب من السماء يقول: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت3: 17).
لقد انشق نهر الأردن عندما نزل الكهنة حاملو تابوت العهد فيه ليفتح الطريق إلى أرض الميعاد ولكن عندما نزل تابوت العهد الحقيقي إلى مياه الأردن لم تنشق المياه بل انشقت السماوات ليفتح لنا السيد المسيح الطريق إلى السماء عن طريق سر العماد المقدس الذي به ننال التبني.
ويمكننا أن نفهم أيضًا أن السماوات قد انشقت عند صعود السيد المسيح جسديًا وهو مالئ الوجود كله بلاهوته. ولذلك صاح الملائكة المصاحبون للابن المنتصر على الهاوية والموت في صعوده مخاطبين الملائكة حراس الأبواب السمائية "اِرْفَعْوا أَيّهَا الرُؤسَاء أبوابكم، وَارْتَفِعْى أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّة، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْد" وعندما تساءل الحراس "مَنْ هُوَ هَذَا مَلِكُ الْمَجْدِ؟" أجابوهم: "الرَّبُّ العزيز الْقَدِيرُ، الرَّبُّ الْقوى فِي الحروب.. رَبُّ الْقوات، هذا هُوَ مَلِكُ الْمَجْدِ" (مز24: 7-10)[1]. ويقول معلمنا بولس الرسول عن دخول السيد المسيح إلى المقدس السماوي "تَدْخُلُ إلى مَا دَاخِلَ الْحِجَابِ، حَيْثُ دَخَلَ يَسُوعُ كَسَابِقٍ لأَجْلِنَا" (عب 6: 19، 20).
_____