كثيرًا ما جاء عن بيلاطس لقب "البنطي" وهي ترجمة خاطئة، والأصح هي "بنطس" لأن اسمه بيلاطس بنطس، وهو ليس من بلد تدعى بنطس أو بنط حتى ندعوه "البنطي". وقد اتفق اللاهوتيون في مجلس كنائس الشرق الأوسط على تصحيح هذا الخطأ في الترجمات.
"ليفعلوا كل ما سبقت فعينت يدك ومشورتك أن يكون". [28]
"والآن يا رب انظر إلى تهديداتهم،
وامنح عبيدك أن يتكلّموا بكلامك بكل مجاهرة". [29]
لم تطلب الكنيسة المجتمعة في عصر الرسل أن يرفع الرب الضيق، ويحطم الأعداء ويهلكهم، بل طلبوا أن يحول الرب كل ضيقة للشهادة بمجاهرة وبكل قوته لملكوته السماوي.
"ارتجت": بينما يقدم الإيمان المسيحي المصالحة التي تتحقق بين الناس والآب خلال دم الابن الوحيد، ومصالحة الإنسان مع أخيه ومحبته حتى لأعدائه المقاومين له، مع المصالحة الداخلية بين النفس والجسد بعمل روح الله القدوس، إذا بالشعوب والأمم ترتج في ثورة عارمة، لأنها لا تطيق النور الإلهي. يستخدم العالم كل عنف لمقاومة الكنيسة الحاملة طبيعة عريسها: "لا يصيح ولا يسمع أحد صوته".
"تفكرت": أي تحول الفكر البشري بكل طاقاته لهدفٍ واحدٍ، وهو تحطيم مملكة النور، ورفض المسيا المصلوب.
"بالباطل": الكلمة اليونانية kena وترجمتها الحرفية في العبرية reeyq وتعني "الفراغ"، فقد صارت الشعوب أشبه بإناءٍ فارغٍ لا يقبل أن يمتلئ بمصدر الشبع، المخلص ربنا يسوع. هذا الفراغ أيضًا يحمل العجز، فكل مقاومة بكل عنف من جانبهم تنتهي إلى لا شيء. إنهم يبددون طاقاتهم في مقاومتهم للحق، فيسمعون مع شاول الطرسوسي: "صعب عليك أن ترفس مناخس". (أع ٩: ٥)
بقولهم: "انظر إلى تهديداتهم" يشيرون إلى اهتمام الله الخاص بمقاومة الأشرار لأولاده، فإنها لا تعبر هكذا، إنما تشغل ذهن الله. وكما صلى حزقيا الملك البار: "أملْ يا رب أذنك واسمع. افتح يا رب عينيك وانظر، واسمع كل كلام سنحاريب الذي أرسله ليعير الله الحي" (إش ٣٧: ١٧)، ويقول المرتل: "قد رأيت لأنك تبصر المشقة والغم لتجازي بيدك، إليك يسلم المسكين أمره". (مز ١٠: ١٤)
*قد يقول أحد: "لكن أنظر، قال المسيح لرسله القدّيسين: "حبّوا أعداءكم..." (لو6: 27)، فكيف يصرخون ضدّهم دون أن يستخفّوا بالوصيّة الإلهيّة؟" نجيب على هذا: "إذن هل نصلّي أن ينالوا جسارة وقوّة من اللَّه ليهاجموا بعنفٍ الذين يمجّدون أعماله، فلا يسمحوا لهم بالتعليم، ويقاومون مجد ذاك الذي تُقدّم له الطلبة؟" كيف لا يُحسب ذلك غباوة؟ لذلك إن قدّمت المقاومة من أي شخصٍ ضدّنا شخصيًا، نحسب ذلك للحال مجدًا لنا أن نغفر لهم، ونحمل حبًا مشتركًا، مقتدين بالآباء القدّيسين حتى عندما يضربوننا ويهينوننا، نعم وإن استخدموا كل نوعٍ من العنف. إذ ليتنا لا نلوم (الرسل) فإنّهم كانوا أسمى من الغضب والكراهيّة. مثل هذا يمجّد القدّيسين ويسر اللَّه...
الصلاة التي نطق بها الرسل القدّيسون ليست أمرًا عديم المنفعة، بل لأجل إنجاح الرسالة الإلهيّة وإضعاف يد المضطهدين. يقول الرسل: "انظر يا رب إلى تهديداتهم"، أي اجعل مقاومتهم لنا باطلة، وامنح عبيدك أن يتكلّموا بكلامك بكل مجاهرة" (أع4: 29)[218].
القديس كيرلس الكبير
*لا يعطي أحد اهتمامًا للمخاطر التي يجلبها الشيطان في الاضطهادات، بل بالأحرى يهتم بالعون الذي يقدمه لنا الله.
ليته لا يرتبك الذهن بالكارثة البشرية بل بالأحرى يتقوى الإيمان بالصون الإلهي، فإنه حسب الوعد الإلهي كل واحدٍ ينال من الله عونًا حسب إيمانه، إن آمن أنه ينال.
لا يوجد شيء ما لا يستطيع القدير أن يهبه إن لم يعقه عدم الإيمان من جانب الذي يستقبل العون[219].
الشهيد كبريانوس
*لاحظوا أنهم لم يقولوا: "حطمهم، واطرحهم، بل ماذا قالوا؟
"امنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة" [29].
لنتعلم نحن أن نصلي هكذا. ومع هذا كيف يمتلئ الشخص سخطًا عندما يسقط بين أناس يقصدون قتله، ويهددونه بهذا؟ كم يمتلئ بالعداء؟ لكن ليس كذلك موقف هؤلاء القديسين[220].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"بمدْ يدك للشفاء،
ولتجرَ آيات وعجائب باسم فتاك القدوس يسوع". [30]
لا تقف طلبتهم عند نوالهم كلمة جريئة للشهادة للحق، وإنما يسألون الرب أن يهبهم آيات وعجائب باسم ربنا يسوع المسيح. لم يطلبوا هذا لحفظ حياتهم الزمنية، ولا لنوال كرامة زمنية.
جاءت صلاتهم بخصوص التهديدات، أنهم لا يضعون اعتبارًا لحياتهم الزمنية أو راحتهم، فإنهم وضعوا حياتهم مبذولة من أجل الشهادة للحق، لكن ما يشغلهم أن ينالوا قوة الروح وحكمته للمجاهرة بكلمة الله، وأن يسندهم بالعجائب والآيات لحساب اسم يسوع القدوس.
طلبوا عمل الآيات، إذ رأوا كيف مجد الشعب اسم يسوع وآمن كثيرون به، وكيف استطاعت آية واحدة أن تلجم رؤساء مجمع السنهدرين وتكتمهم.
"ولما صلّوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه،
وامتلأ الجميع من الروح القدس،
وكانوا يتكلّمون بكلام اللَّه بمجاهرة". [31]
في تعليق القديس كيرلس الكبير على كلمات السيّد المسيح في لوقا 17: 6 عن قوّة الإيمان يقول: [إن كانت قوّة الإيمان تحرّك (تهز) ما هو ثابت... يمكن القول بكل يقين أنّه ليس شيء ثابت لن يهزّه الإيمان، متى كان هناك داعٍ لاهتزازه. لذلك عندما صلّى الرسل تزعزع المكان، كما سجّل أعمال الرسل[221].]
لماذا تزعزع المكان؟ هذا استعلان عن حضور الله نفسه: "الأرض ارتعدت، السماوات أيضًا قطرت أمام وجه الله" (مز ٦٨: ٨)، "من قبل رب الجنود تُفتقد برعدٍ وزلزلةٍ وصوتٍ عظيمٍ بزوبعةٍ وعواصفٍ ولهيب نار آكلة" (إش ٢٩: ٦). وأيضًا عن قبول الله للصلاة الكنسية من أجل الخدمة ولحلول الروح القدس ليهب الرسل قوة خارقة للطبيعة. فالمكان يتزعزع، والزمان ينتهي حيث يحل روح الحق الذي يفرق الزمان والمكان.
بحلول روح الحق الأبدي ينفضح ضعف الطبيعة، فلا يرتبط الإنسان بالزمان والمكان بل بالأبدي وحده.
يا لعظمة الصلاة وقدرتها فهي تفتح قلوب البشر على خالقهم، لينهلوا من قوته الإلهية التي تزعزع المكان، وتثبت قلوبهم.
تحول الضيق والمرارة والتهديدات إلى صلاة لها قوتها، لتهب إمكانيات الروح القدس للكرازة والشهادة.
*من يفهم القول السري للطوباوي بولس: "فإن مصارعتنا... مع أجناد الشر الروحية" (أف 12:6)، يفهم أيضًا مثل الرب الذي انتهي بقوله: "ينبغي أن يُصلى كل حين ولا يُمل" (لو 1:18).
القديس مرقس الناسك
غاية هذا الملء المتجدد هو النطق بكلام الله بمجاهرة.
6. حياة الشركة
"وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة،
ولم يكن أحد يقول أن شيئًا من أمواله له،
بل كان عندهم كل شيء مشتركًا". [32]
يقدم لنا الإنجيلي لوقا صورة رائعة عن سمات الكنيسة في عصر الرسل تتقدمها سمة الحب العميق والوحدة الصادقة على مستوى الروح والقلب كما على مستوى العمل.
إذ امتلأ الجميع من الروح القدس، ليس فقط تزعزع المكان الذين كانوا يقيمون فيه الصلاة، بل وتزعزع العالم أمام أعين التلاميذ، فلم يسمحوا له بالتسلل إلى قلوبهم. تجلت أمامهم اللؤلؤة الكثيرة الثمن فلم يجدوا حاجة إلى تغصب لبيع ما لديهم لاقتنائها.
تجمعت هذه الآلاف من جنسيات مختلفة ولغات متباينة، كانوا قبلًا يشعرون أنهم غرباء عن بعضهم البعض، حتى وإن اجتمعوا في هيكلٍ واحدٍ ليقدموا عبادة واحدة. كان منهم كثيرون قادمون من بلاد مختلفة، وحتى الذين من أورشليم كانوا ينتسبون إلى جماعات متعارضة في الفكر. الآن تجمع الكل كأعضاء في جسد المسيح الواحد، يقودهم الروح القدس الواحد خلال رباط الحب.
*وهبهم الروح روح الحب والوحدة، فلم يحسب أحد أن له شيئًا ما، بل كل ما في يديه هو لاخوته. لم يعد للإحساس بالملكية الفردية وجود في حياة المؤمنين، لذلك تحققت الوحدة قلبًا ونفسًا.
والعجيب أن هذا الشعور لم يتحقق من أوامر إلهية أو قوانين كنسية أو وصايا رسولية صدرت لهم، لكنه تحقق طبيعيًا بامتلائهم من الروح القدس فصاروا أعضاء جسد المسيح القدوس، الذي بذل ذاته عن الجميع، وأخلى ذاته من أجل خلاص الكل.
*في كنيسة أورشليم كما لو وُجد جمر والتهاب بنار الروح القدس، عندما كان للكل نفس واحدة وقلب واحد نحو اللََّه. عندما رُجم إسطفانوس تحمّلت تلك الكومة الاضطهاد، وتبعثر الجمر فانطلقت النار في العالم[222].
القديس أغسطينوس
*عندما يصير المسيحيون هكذا (في توافقٍ) يصدرون موسيقى، أو يصدرون صوتًا متناغمًا يسر الله، ويتحقق فيهم ما هو مكتوب: "كانوا بقلبٍ واحدٍ ونفسٍ واحدةٍ"[223].
الأب قيصريوس أسقف آرل
*الآن اخبروني هل حبهم أنجب فقرهم، أم الفقر ولَّد الحب؟ في رأيي إن الحب ولَّد الفقر، وبعد ذلك سحب الفقر بقوه حبال الحب[224].
القديس يوحنا الذهبي الفم
*هذا الحب الذي هو من الله لا يمكن فصله عن شخص الله، لأن الله والحب واحد. وحيث أن الحب الذي في ذاته غير منفصل عن مصدره، فإنه ليس فقط يقتني الكائنات البشرية الذين يمكن للواحد أن يعتزل الآخر، وإنما يجعل قلوب كثيرة ونفوس متعددة قلبًَا واحدًا ونفسًا واحدة، فأي جنون هو القول بأن هذا الحب الذي يعتاد أن يربط العقول المنفصلة في حب لا ينفصل يمكن فصله عن الكائنات البشرية الذين يعبرون عنه؟ لهذا يقول بولس: "فإني وإن كنت غائبًا في الجسد لكني معكم في الروح، فرحًا وناظرًا ترتيبكم" (كو 2 :5). وجاء في أعمال الرسل أنه كان لجمهور المؤمنين قلب واحد ونفس واحدة... الأمر الذي ما كان يتحقق إلا بروح الإيمان والحب[225].
الأب فلجنتيوس أسقف روسب
*مجّدوا الرب معي ولنرفع اسمه معًا (مز 34: 3). فإنه يوجد أمر واحد ضروري، وهو سماوي (علوي)، الوحدة! الوحدة التي فيها الآب والابن والروح القدس هم واحد. انظروا، كيف اُستودعت الوحدة لدينا... الثالوث كلّه هو اللََّه الواحد، والحاجة إلى واحد. ليس شيء يجلبنا إلى هذا الأمر (اللََّه الواحد) إلا إذ صرنا نحن الكثيرون قلبًا واحدًا[226].
القديس أغسطينوس
*أقول الآن أن كل الكنيسة آنذاك كانت مثل الحفنة القليلة التي تسلك الآن في نظام الشركة، ولكن بعد موت الرسل، وقد بدأت جموع المؤمنين تفتر وتبرد، خاصة الجموع التي جاءت إلى الإيمان من أممٍ مختلفةٍ، والذين بسبب حداثة إيمانهم وعبادتهم الوثنية المتأصلة فيهم لم يُطالبوا سوى بضرورة أن "تمتنعوا عمَّا ذُبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنى" (أع 29:15). هذه الحرية التي وُهبت للأمم لحداثة إيمانهم، قللت من الصورة الكاملة التي كانت لكنيسة أورشليم... بل وحتى بعض القادة تهاونوا بعض الشيء ظانين أنه ما قد سُمح به للأمم من أجل ضعفهم مسموح به لهم أيضًا، معتقدين أنهم لن يُضاروا شيئًا إن اتبعوا إيمان المسيح، واعترفوا به محتفظين بمقتنياتهم وما يمتلكونه[227].
الأب بيامون
*كيف إذن يمكن أن تحدث أي بذار للنقاش (المثير) ممن لا يطلب ما لنفسه بل ما هو لقريبه؟! بهذا يصير تابعًا لربه وسيده القائل عن نفسه: "لأني قد نزلت من السماءِ ليس لأعمل مشيئَتي بل مشيئَة الذي أرسلني" (يو38:6).
كيف يمكن أن يثير نزاعًا لسببٍ ما، ذاك الذي صمم أن يأخذ برأي قريبه، ولا يسلك حسب إرادته الذاتية، محققًا بقلبٍ ورعٍ متواضعٍ ما جاء في الإنجيل: "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حبّ بعض لبعض" (يو 35:13)؟
لأنه بهذا، كما بعلامة خاصة، أراد السيد المسيح أن يميز قطيعه في هذا العالم، فارزًا إياهم عن غيرهم، مختومين بالختم الذي نتكلم عنه! على أي أساس يقبل أية ضغينة تتسرب إلى نفسه أو تبقى في نفس أخيه؟! فإن قراره ثابت وهو أنه لا يمكن أن يترك أساسًا للغضب، لأنه أمر خطير وخاطئ، وإذا ما كان أخوه غاضبًا معه لا يقدر أن يصلي كما لو كان نفسه غاضبًا، حافظًا كلمات ربنا ومخلصنا يسوع في قلبه بتواضع: "فإن قدَّمت قُربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فأترك هناك قُربانك قُدّام المذبح واذهب أولًا اصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدِّم قُربانك" (مت 23:5، 24)[228].
الأب يوسف
يرى القديس أمبروسيوس أن أساس الوحدة التي تقوم بين الجماعة المقدسة هي وحدة الإنسان، والتناغم بين عناصره بعمل الروح القدس، فتصير النفس أشبه بحمامة واحدة (نش 6: 9)، وتتمتع بالسلام الداخلي بين النفس والجسد، فيصير الاثنان واحدًا (أف 2: 14)، بهذا تتشبه بالقائل: "ليكون الجميع واحدًا كما أننا واحد. أنا فيهم، وأنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد (وحدة)" (يو 17: 22-32). لهذا مثل هذه النفس هي حمامة واحدة، صادقة، روحية، لا تضطرب بشهوات الجسد مع وجود صراعات من الخارج ومخاوف من الداخل (2 كو 7: 5)[229].
*لقد أمرنا الرب بصوته، قائلًا: "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا" (يو 15: 12). وأيضًا: "إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السماوات" (مت 18: 19). فإن كان اثنان بفكرٍ واحدٍ يمكنهما أن يفعلا هذا، كم يكون بالأكثر إن حدث اتفاق جماعي بين الكل؟[230]
الشهيد كبريانوس
يرى الشهيد كبريانوس أن الله يقدم عطايا للجميع، ونحن كأبناء لله نسلك بالناموس السماوي، نتمثل بالله فنُشرك الكل فيما نملكه[231].
إذ قدم لنا القديس يوحنا كاسيان وصفًا رائعًا عن حياة الشركة الرهبانية في مصر أبرز أهمية الشركة على نمط الكنيسة الأولي، كما جاء في سفر الأعمال. وقد أضاف إليها أن البعض خرجوا خارج المدن ليعيشوا حياة نسكية عجيبة، فقد انشغلوا بدراسة الكتب المقدسة والصلوات والأعمال اليدوية ليلًا ونهارًا بغيرة متقدة حتى أنهم كانوا ينسون الطعام ولا يفكرون فيه كل يومين أو ثلاثة أيام حيث يذكرهم الجوع الجسدي بذلك[232].
"وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع،
ونعمة عظيمة كانت على جميعهم". [33]
أما السمة الثانية للكنيسة فهي تمتع الرسل بقوة عظيمة، أي إمكانية قبول المستمعين لكلماتهم، يتكلمون كمن لهم سلطان إذ يحملون واهب السلطان في داخلهم. لهم نعمة عظيمة أمام من يلتقي بهم، حتى المقاومون لهم يشعرون بنعمة الله وإشراق النور الإلهي على حياتهم. يتلمس الكل في أعماقهم أنهم يحملون انعكاس بهاء مجد الرب وجماله، هذا الذي هو "أبرع جمالًا من بني البشر".
خرج التلاميذ من تجربة السجن والتهديدات بقوةٍ مضاعفة، فقد قدمت الكنيسة صلاة بحرارة، بنفس واحدة، وامتلأ الكل من الروح القدس، وصار للجميع قوة عظيمة للشهادة، وتمتعوا بنعمة إلهية عظيمة.
هنا يكاد الإنجيلي لوقا أن يسجل عجز اللغة البشرية عن وصف حال الكنيسة الحاملة لقوة الله والمتمتعة بنعمته، فتنطلق في طريق الشهادة لقيامة الرب من الأموات بكل قوةٍ ونجاحٍ، مع نموٍ دائمٍ لملكوت الله.
*"ها أنا أعطيكم سلطانًا أن تدوسوا الحيّات والعقارب". هذا ليس بعمل إنسان مجرّد، ولا يقدر أحد مثلنا أن يمنح آخرين مثل هذا السلطان المجيد والعجيب لكي يكون لهم القدرة أن يدوسوا كل قوّة العدوّ. هذا بالأحرى هو عمل خاص باللَّه وحده، العالي فوق الكل والمكلّل بالكرامات الفائقة... إنّه لم يترك للتلاميذ أي عذر للاستسلام للجبن، بل بالأحرى يطلب منهم أن يكونوا أقوياء القلب وشجعانًا، لأنّه هكذا ينبغي أن يكون خدّام كلمة الإلهيَّة، لا جبناء، ولا مقهورين بالكسل، وإنّما يكرزون "بقوّة عظيمة" كما يقول الكتاب (أع4: 33)[233].
القديس كيرلس الكبير
"إذ لم يكن فيهم أحد محتاجًا،
لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها،
ويأتون بأثمان المبيعات". [34]
بعد أن تحدث الإنجيلي عن سمات الحب والوحدة الكنسية، والشهادة بروح القوة، والكشف عن بهاء المسيح الساكن فيهم تطرق إلى سمتين عمليتين هما سمة واحدة ذات وجهين: السخاء في العطاء خاصة للمحتاجين، والموت عن العالم وكل غناه وكراماته.
*كانت مشاعرهم كما لو كانوا تحت سقف أبوي، صار الكل في لحظة يشتركون معًا. إنه لا يُقال أنهم أعانوا الآخرين وإن كانوا بالحقيقة فعلوا هكذا، إلا أنهم شعروا بأن كل شيء هو لهم. لا، الأمر العجيب هو هذا، أنهم أولًا نقلوا ممتلكاتهم، وهكذا سندوا الآخرين، على أن هذا العون لم يأتِ من ممتلكاتهم الخاصة بل من الملكية العامة[234].
القديس يوحنا الذهبي الفم
*أولئك الذين بالإيمان نالوا في داخلهم ذاك الذي يجعل كل الأشياء جديدة... إذ يقبلون منه كلمة رسالة الإنجيل الذي يبهج قلب الإنسان جديدةً، يصيرون فوق الغنى ومحبّة المال، وتتشدّد عقولهم، فلا يعطون اعتبارًا للأمور الزمنيّة، بل يتعطّشون للأبديّات.
يكرمون الفقر الاختياري ويشغفون بمحبّة الإخوة. وكما جاء في أعمال الرسل القدّيسين أن كثيرين من أصحاب الأراضي والبيوت باعوها وجاءوا بأثمانها ووضعوها عند أقدام الرسل، وكانت توزّع على كل أحد حسب احتياجه[235].
القديس كيرلس الكبير
يصور لنا القديس يوحنا الذهبي الفم هذا المنظر السماوي الرائع قائمًا على الأرض، حيث يرى أن الثلاثة آلاف الذين آمنوا مع الخمسة الآلاف بعد ذلك يمارس جميعهم نفس الشيء في نجاحٍ سامٍ، ولم يعد واحد منهم يشتكي من الفقر. أي مجد يمكن أن يوجد أكثر مما كان لهذا الشعب؟[236]
حقًا إن الحب والوحدة يجعلان من الكنيسة سماءً مجيدة، فإن الشركة العملية الصادقة والنابعة عن الحب لهي شهادة لعمل نعمة الله الفائقة.
*ألم تسمع الرسل يقولون أن الذين نالوا الكلمة أولًا باعوا البيوت والأراضي، لكي يسدوا احتياجات الرسل؟ أما أنتم فتسلبون البيوت والأراضي لكي تزينون فرسًا، أو قطعة (أثاث) خشبية أو جلدية، أو حائطًا، أو رصيفًا. وما هو أردأ من هذا أنه ليس فقط الرجال، بل وحتى النساء أيضًا تأثرن بهذا الجنون، ودفعن رجالهن إلى هذا النوع من الهوى الفارغ، فيدفعنهم أن ينفقوا أموالهم في شراء ما هو أكثر من الضروريات[237].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"ويضعونها عند أرجل الرسل،
فكان يُوزع على كل واحدٍ كما يكون له احتياج". [35]
خرجت الكنيسة من الضيقة لا لتعاني من متاعب مادية، بل لتمارس الحب الأخوي في أروع صوره، وتكشف عن وضع المال في كنيسة العهد الجيد، إنه ليس في صندوقٍ خاصٍ، ولا في أرصدةٍ لدى مصارف، بل عند أرجل الرسل.
ما يعجز عن تحقيقه في كل أنظمة العالم الاقتصادية والاجتماعية لتوفير احتياجات الفقراء والمعوزين تحقق طبيعيًا عندما تمتعت الجماعة بملء الروح. فصارت الأموال عند أقدام الرسل، لينال منها كل شخصٍ احتياجه بروح الأمانة والخشوع.
*إنه عمل رمزي يشير إلى أن يليق بالناس أن يطأوا بأقدامهم على الطمع. فإن الرب يشتاق أن يهب نفوس المؤمنين ما هوأعظم من غناهم. نقرأ في الأمثال: "فدية نفس الإنسان غناه" (أم 13: 8LXX).
القديس جيروم
<FONT size=4>*أقر سليمان أيضًا في الروح القدس وشهد وعلم بالسلطان الكهنوتي قائلًا: "خف الرب بكل نفسك وكرم كهنته" (حكمة سليمان 7: 29). وأيضًا: "أكرم الله من كل نفسك وكرم كهنته" (حكمة سليمان 7: 31)... علاوة على هذا فإن ربنا يسوع المسيح نفسه ملكنا ودياننا وإلهنا في ذات يوم آلامه لاحظ كرامة الكهنة و<SPAN lang=ar-sa>