مشاركة الجسد في الصلاة، وما يجب وما لا يجب الصلاة من أجله.
مشاركة الجسد للنفس في الصلاة
بالإضافة إلى الحياة الصالحة فإن القديس يوحنا ذهبي الفم يدعو المُصلِّي إلى مشاركة الجسد في الصلاة، كما يذكر ذلك المزمور 140. ففي الآية 2 يقول: ”فلترتفع صلاتي كالبخور قدَّامك، ورَفْع يديَّ كذبيحة مسائية“
(حسب الترجمة السبعينية).
ويتساءل ذهبي الفم:
”ما هي أهمية رَفْع اليدين في الصلاة كذبيحة مسائية“؟
ويجيب بأن اليدين هما الأداة التي يستخدمها الأشرار في عدد كبير من الجرائم: اللكم، والقتل والسرقة. فإذا ما ارتفعتا في الصلاة فهما لن تعودا قادرتين على ارتكاب الإثم وهما تصلِّيان. ويقول، إنها ليست جريمة أن يُصلِّي الإنسان بيدين غير مغتسلتين (كما كان في العهد القديم)، لكن إذا ارتفعتا أمام الله وهما ملوَّثتان بآلاف الشرور فإن هذا يستثير غضب الله. لابد أن الإنسان يُطهِّرهما بالصدقة، ومحبة البشر، وبمساعدة مَن هم في حاجة.
وبحسب شرح ذهبي الفم، فإن المرتِّل يحثنا على أن نطبِّق نفس المبدأ على أفواهنا، حينما يقول: ”ضع، يا رب، حارساً على فمي“. ويستدعي ذهبي الفم كلمات الرسول بولس كنموذج: «لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم» (أف 4: 29)، ويُذكِّرنا الرب يسوع: «إن كل كلمة بطَّالة يتكلَّم بها الناس سوف يُعْطون عنها حساباً يوم الدِّين» (مت 12: 36).
ويخرج من هذين القولين بأننا يجب أن لا ندع الفكر السيئ يتحوَّل إلى كلمات، فإن أدَّى فكر الحسد إلى الغضب، فلنحفظ أفواهنا مغلقة. ويُقدِّم ذهبي الفم هذه الوَصْفة للتحكُّم في أحاديثنا: فإن كنت قد كوَّنت لنفسك عادة عدم التكلُّم بالكلام البطَّال غير ذي الفائدة، وإن كانت روحك مثل فمك تحوط نفسها دائماً بأحداث الكتاب المقدس، فسيكون عندك ”الحارس“ الأمين على فمك.
ويشير ذهبي الفم إلى أن دور الصوت في الصلاة لا يجب أن ينفصل عن دور القلب والروح. ويقول، إنه ليس من الضروري أن يكون للإنسان صوت قوي جهوري، إن أراد أن يصلِّي. فحينما يقول المرنِّم: ”صرخت إليك يا رب فاستمع إليَّ“ (مز 140: 1)، فإنه - حسب ذهبي الفم - يقصد الصراخ الداخلي الباطني الذي يترك النفس مفعمة بالمحبة والقلب الندمان. وهو يحزن على الذين يكونون حاضرين في الهيكل ولكنهم لا يصرخون إلى الله. إنهم يصلُّون بشفاههم دون أرواحهم. إنهم لا يُعيرون انتباهاً لِمَا يقولون. ثم يُقدِّم موسى والعشار كأمثلة لمن يصلِّي بحرارة. موسى حينما صلَّى بغيرة، استجاب له الله. وحتى العشار الخاطئ حينما صلَّى بغيرة وانتباه، نال ما صلَّى من أجله. أما الكسول الذي لا ينتبه لِمَا يقول، فإنه لا يصرخ إلى الله، وحتى لو صرخ إلى الله فإنه عبثاً يرفع صوته.
ويضيف ذهبي الفم، إن الشخص الذي لا يرفع عقله، فحتى ولو صنع صخباً، فإنه لا يكون قد صرخ إلى الله. لكن المرنِّم فَعَلَ هذه وتلك، إذ قال: ”بصوتي إلى الرب صرخت، بصوتي أصنع توسُّلي إلى الرب“ (مز 141: 2).
ويُعلن ذهبي الفم، إننا نرى هنا نفساً قد تجرَّدت من كل اهتمامات الأرض. وليس فقط لغة أفواهنا، بل وأيضاً عيوننا وأيدينا وأقدامنا وآذاننا، فبحسب كلمات ذهبي الفم، فإننا نكون كمن يُغنِّي بالتسبيح للرب. وهذا يتم - كما يقول - حينما لا تتطلَّع العينان إلى المحرَّمات، وحينما لا تكون اليدان ممتدتان للسرقة بل لتقديم الصدقة، وحينما تكون الأُذنان مستقبـِلَتين فقط لترنيم المزامير وللتوجُّهات الروحية، وحينما تُسرع القدمان إلى بيت الله، وحينما لا يكون القلب خادماً للأحقاد والمؤامرات بل ممتلئاً بالمحبة. يقول ذهبي الفم، إن جسدنا يكون حينئذ قيثارة وعوداً يؤدِّي ترنيمة جديدة، ليس فقط بالكلمات بل وبالأعمال أيضاً.
وحينما يقول داود: «من الأعماق صرختُ إليك» (مز 130: 1)، يقول ذهبي الفم، فإنه يكون مُصلِّياً من أعماق القلب. مثل هذه الصلاة تكون ذات قوة كبيرة لأنها لا يمكن أن تنتهي أو تتزعزع بسبب ضربات العدو. أما الصلاة التي هي من الفم والشفتين فقط، فهي لا تنبع من عمق القلب. ويُحذِّرنا ذهبي الفم بأنها لا يمكن أن ترتفع إلى الله لأنها تكون قد ضعفت بسبب لامبالاة المصلِّي فإن أي شيء يمكن أن يشتتها، وأقل ضوضاء أو اضطراب يحوِّل المصلِّي عن صلاته، لأن الفم وحده هو الذي يُصلِّي، أما القلب فخالٍ وعادم الفهم.
ويقول القديس ذهبي الفم، إن القديسين لم يصلُّوا هكذا، وهو يُقدِّم أمثلة متعددة. فالنبي إيليا سعى إلى الانفراد وصلَّى بحرارة وانتباه. حنَّة، أم صموئيل، صلَّت من عمق قلبها بأنهار من الدموع. وكلُّ مَن يُصلِّي هكذا فإنه يسكب السكون والهدوء على شهوات النفس، ويُليِّن الغضب، ويطرد الضغينة، ويُطفئ الشهوة، ويُضعف محبة الأرضيات، ويبعث الهدوء في القلب.