التوبة في الصلاة
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم إنه إذا أخطأنا وكنَّا مستعدين أن نكفَّ عن الخطية،فسنكون أهلاً لرحمة الله.
وفي مزمور 3:6 يصلِّي داود قائلاً:
”ارحمني، يا رب، فإني ضعيف“ .
ويقول ذهبي الفم إن داود يُعطينا هنا أحد مبررات حصولنا على مغفرة خطايانا وهو الضعف الذي يصيبنا من جراء التجارب.
وحينما يستطرد داود فيقول:
”لقد أُنهِكتُ بسبب أعدائي“
فإن هذا يُعتبَر ــ في تفسير ذهبي الفم ــ إشارة إلى أنه يعرف أن الضيقة التي ينوء بها هي وسيلة فعَّالة لبلوغ رحمة الله ولجعله مُحبَّباً لدى الله.
ولهذا فإن دموع التوبة التي يذرفها داود جديرة بانتباهنا:
”بدموعي أغسل فراشي“ (مز 7:6).
يُصرُّ ذهبي الفم على أن الاعتراف الأمين بخطايانا جدير باستدرار رحمة الله علينا.
الصلاة أثناء أزمنة الضيق:
يتكلَّم القديس ذهبي الفم عن الضيقات كوسيلة تجعل الذين يتألمون بها في حالٍ أحسن وأكثر حكمة.
فالنفس المنغمسة في وحل الشرور تلتفت حينئذ إلى الله. وهذا التحوُّل هو ثمرة الضيقة، فهي تشد النفس وتخرجها من سباتها، وتجعلها تتوسل طالبة العَوْن من أعلى وتجرِّدها من كل رجاء في هذه الحياة.
يقول ذهبي الفم إن صلاة داود:
”خلِّصني يا رب من كل الذين يضطهدونني، وأنقذني“ (مز 2:7)
، هي وسيلة أخرى بها يفلت من الذين يحزنونه، لأنه يستخدم لغة معتدلة ليتكلَّم عن أعدائه دون أن يُعدِّد جرائمهم ضده. فقد رأى ابنه وقد صار فريسة للشيطان الذي افترسه، فيشرح ذهبي الفم أنه توسَّل إلى الله أن ينقذه من مثل سوء المصير هذا.
ويشير القديس ذهبي الفم كثيراً إلى كيف يجب أن يكون اتجاهنا نحو أعدائنا، وسنعود إلى ذلك فيما بعد تحت عنوان: تطويع حياتنا لشريعة الله.
ومن الطبيعي أن يتجه الإنسان في أزمنة الضيق نحو الله بالصلاة، لكن ذهبي الفم يؤكِّد على أنه يجب أن نفعل ذلك باتضاع، كما فعل داود حينما قال:
”ارحمني، وأنصت إلى صلاتي.“ (2:4)
والتواضع، كما يقول ذهبي الفم، هو أحد أركان الفضيلة، وهو ضروري لِمَن يصلِّي ليستحق الرحمة. وحينما يصرخ داود في مز 6:12:
”أما أنا فعلى رحمتك توكَّلتُ“
، فإن داود ــ كما يشرح ذهبي الفم ــ بالرغم من استطاعته أن يستدعي إلى ذاكرته كل أعماله الصالحة لتشفع له في استجابة الله صلواته، إلاَّ أنه في اتضاعه يحصر نفسه في استدعاء رحمة الله.
ويضيف أن فضيلة الاتضاع هي التي ألهمت داود ليقول: ”القلب المنكسر والمتضع لا يرذله الله“
(مز 19:50)
. وفي مزمور 2:143 يدعو داود الله بأنه: ”رحمتي، وملجأي، ومعيني ومنقذي“. ويقول ذهبي الفم إن الاتضاع يظهر في تذكُّر أنه من الله وحده يجب أن نطلب الرحمة.
ويشير ذهبي الفم في معرض شرحه لمزمور 9 إلى أن الكثيرين من ذوي السعة والغِنَى يصيرون متكاسلين ومهملين في واجباتهم تجاه الله وبني جنسهم من البشر، ثم إذا أصابتهم المحن يسقطون في اليأس. ولكن ذلك لم يحدث مع داود، كما يقرر ذهبي الفم، فبالرغم من إقامته في قصره الملكي، إلاَّ أنه كان دائم الالتزام نحو الفقير والمسكين. فالغِنَى قاده إلى أن يعلن شكره لله، والضيقات كانت كفيلة بأن تلهمه اللجوء إلى الله، هكذا يقول ذهبي الفم، فلا شأن للظروف؛ إذ الصلاة هي الردُّ الأول لداود عليها. لذلك يعلن ذهبي الفم:
”إليكم داود معلِّماً“.
إن ذهبي الفم يعتبر داود معلِّماً لنا، لأنه يُقدِّم نفسه قدوة بحياته الفاضلة كما بالطريقة التي يصلِّي بها في المزامير؛ وإذ يتخذه ذهبي الفم قدوة يحثـُّنا: ”
فلنؤدِّ كل ما علينا أن نعمله، وحينئذ سنستحق كل ثناء“. إن هناك ثمة أهمية قصوى على ما يمكننا أن نفعله، ليس فقط من جهة أسلوب حياتنا التي نحياها، بل وأيضاً باتجاهنا الروحي أثناء الصلاة.
تطويع حياتنا لمشيئة الله،
أن نؤدِّي ما علينا أن نعمله:
يتساءل القديس ذهبي الفم:
”ما الذي علينا أن نعمله“؟
ويردُّ في الحال بالمثل الآتي: ”
فإنْ أبغضك أحد، أحببه واصنع الخير نحوه. وإن شتمك واستهزأ بك، بارك عليه وامدحه“.
ويُقدِّم أمثلة أخرى فيقول إنه يجب أن نهرب من الكراهية والغضب والانتقام، ونتحمل الشتائم برأس مرفوعة، محوِّلين الخد الآخر إذا لُطمنا. فكما أنه قيل عن الله أنه كان له أعداء، لكنه لم يبغضهم بل أبغض أعمالهم الشريرة؛ هكذا فالإنسان البار له أعداؤه، ولكن دون أن يعمل على الثأر منهم أو ردّ الإساءة، بل يبغض شرورهم.
ويُذكِّرنا القديس ذهبي الفم بأن القديس بولس يحثُّ المؤمنين على أن يُظلَموا أفضل من أن يَظلِموا، يُضرَبوا أفضل من أن يَضرِبوا (كما ورد في أقوال الآباء النسَّاك: ”كُنْ مظلوماً لا ظالماً“).
هذا إظهار لقوة عُظمى ــ كما يقول ذهبي الفم ــ وهذا ما يغرس فينا الصبر الذي يجعل النفس قوية وأعلى من أي قلق واضطراب.
وفي مزمور 5:5:
”تبغض كل فاعلي الإثم، وتُهلك كل الناطقين بالكذب. رجل الدماء والغاش يُرذله الرب“،
يقول ذهبي الفم، إن النبي يُعلِّمنا درساً عن ضرورة أن نُطوِّع حياتنا لمشيئة الرب لكي نصير مستحقين للاقتراب منه. رجال الإثم يُبرِّرون طردهم مخافة الله من قلوبهم، وهكذا كما يقول ذهبي الفم، يُهيِّئون الفرصة لنفوسهم ليرجعوا مرة أخرى إلى نفس الخطايا. وهذا هو السبب الذي من أجله كان داود يوصي دائماً بأحد أفعال الفضيلة الأساسية أن نتفادَى التورُّط مع هؤلاء كما يقول في المزمور 4:140:
”لا تُمِل قلبي إلى الشرور، فأتعلَّل بعلل الشر مع الناس فاعلي الإثم“.
ويعتقد ذهبي الفم بأن هذا ما دفع داود أن يبدأ مزاميره بهذه الكلمات:
”طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة المنافقين، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس.“ (مز 1:1)
فلا يكفي أن نصلِّي حتى يسمعنا الله، بل يجب ــ كما يقول ذهبي الفم ــ أن نتعاهد مع أنفسنا كما فعل داود وهو يصلِّي:
”علِّمني يا رب مشيئتك، لأنك أنت هو إلهي... وأنا عبدُك“ (مز 10:142ــ12).
ولذلك يحثنا ذهبي الفم ليس فقط أن نصلي، بل بأن نُقرِن صلواتنا بحياة مقدسة. وفي نفس الوقت فإن مثل هذه الحياة الصالحة تمجِّد الله (مت 16:5)، أما الحياة الشريرة فهي التجديف على الله، كما قال الله للإسرائيليين على فم النبي إشعياء:
”بسببكم اسمي يُجدَّف عليه بين الأمم“
(إش 5:52).
لذلك يحضنا أن ننتبه لكلمات المسيح:
«فليُضئ نوركم هكذا قدَّام الناس، لكي يَرَوْا أعمالكم الحسنة ويُمجِّدوا أباكم الذي في السموات»
(مت 16:5)
، ثم يضيف ذهبي الفم:
”فلتسبق حياتنا أفواهنا“!
ولأن القديس ذهبي الفم يعتقد بأن الصلاة الحارة تُليِّن القلب وتُحرِّكه بقوة أكثر مما تفعله النار، فهو يُحذِّرنا أننا حينما نصلي لا ندبِّر لأنفسنا أن ننال ما نصلِّي من أجله، ولكن أن نجعل صلاتنا تُجدِّد نفوسنا إلى الأفضل. وحينما يتكلَّم عن مزمور 120 يحضنا هكذا: ”فلنحترس من أن نظل في الإهمال والتراخي. فلنعمل بجدٍّ من أجل خلاصنا. أعطِ الله الفرصة والدافع ليُكافئك. افعل كل ما عليك أن تعمله، والله يكمل الباقي.“