الغفران الناقص والسلبية ليسا علاجاً
ظن داود أنه يستطيع أن يعالج ابنه بالغفران الناقص، الذي يسمح له بالعودة من المنفى بشرط أن ينصرف إلى بيته ولا يرى وجهه، وعالج داود المشكلة السلبية المطلقة، أو في لغة أخرى، لقد أعاده من منفى المكان في جشور حيث كان هناك مع أقارب أمه، ليبقيه في منفى أسوأ أو أشد، منفى النفس، مع أن المشكلة الحقيقية أنه الآن أحوج ما يكون إلى حب أبيه أو نصحه، أو إرشاده، أو تهذيبه، أو تعليمه، أو توجيه نظره إلى الله،.. وإذا لم يستطع داود أن يملأه بكل هذه، فلابد أن يملأ الفراغ بصورة أخرى، إذ تصور الفتى قسوة أبيه وعنفه وشدته، وفقست الأفعى في أعماقه فقس الحقد والتمرد والغدر والخيانة،... لقد ارتكب أبشالوم جريمته، والمجرم متعد، لكنه أكثر من ذلك إنسان مريض وقد نظر المسيح إلى الخاطيء بهذا المعنى وهو يقول: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى".. والعالم اليوم ينظر إلى المجرم هذه النظرة، ويحاول لا مجرد استئصال المجرمين، بل التغور وراء نزعتهم الإجرامة، لمعرفة الدوافع الكامنة الخفية وراء ما ارتكبوا من آثام وجرائم،.. ولو أن الآباء نظروا إلى أولادهم بهذا المنظار، وهو يرتكبون الشرور والمفاسد والآثام، ولو أدركوا أن هذا الوقت بالذات، هو وقت المعالجة الجادة الصبورة الحكيمة، لتركوا كل شيء، ليهتموا بتقويم الإعوجاج وإصلاح المفاسد، والعودة بأبنائهم، لا من مجرد الكورة البعيدة التي ذهبوا إليها، بل إلى الحنان والحب والإحسان والجود في بيت الآب،. أو -لغة أخرى-ليس من مجرد منفى المكان بل قبل وبعد كل شيء من منفى النفس الموحشة المعذبة القلقة التعسة، وبغير هذا سيتحول من إجرام إلى إجرام أقسى، كما تحول أبشالوم من القضاء على أمنون، للمحاولة الأكبر للقضاء على أبيه وتقويض ملكه ومجده وعرشه وخدمته!!...