ثالثاً: تفسير المزمور:
القسم الأول :صرخة استغاثة وتعجب وشكوى.(1)
1- يا رب لماذا تقف بعيدا وتتوارى في زمن الضيق:
يبدأ هذا المزمور بسؤال كبير يقلق داود ويحيره كما سبق ومازال يتردد في عقول وقلوب الصديقين والأبرار بل الأنبياء والرسل بل ردده الرب يسوع ذاته على الصليب وهو يشعر بأن الرب أباه قد "شبقه" أي أهمله وتخلى عنه...يتساءل داود النبي في أزمته الشديدة عن وجود الله في حياته وعن معنى هذا الوجود ومدى تأثيره على الأوضاع التي يراها النبي مقلوبة شديدة الصعوبة وبالغة التعقيد مما قد يحمل الكثير من الصديقين إلى الصراخ كما يحمل المنافقين الى الاستهتار...فهو كثيراً جداً ما اختبر عمل الله في حياته وأحس بيده الرحيمة تتلقفه، لقد أتي به من المراعي خلف الغنم وأقامه ملكاً ورئيساً على شعبه، ولطالما شعر برعايته الأبوية تحميه وتدافع عنه، فعاش زهو أكاليل النصر في جميع ما خاض من المعارك...
إنه رجل يعرف الله جيدا ويعزف له على المزمار والقيثار فيخلب قلوب سامعيه، إنه رجل يترنم دوماً بحمده ويتمتم بشريعته ليل نهار، رجل يرفض ان يدخل قصره ويستريح على سريره بينما تابوت الرب في خيمة لا تليق بمقامه الرفيع، رجل لا يستحي وهو الملك أن يرقص أمام تابوت العهد وهو ينشد فرحاً قم يا رب إلى موضع راحتك أنت وتابوت عهدك...
لكننا برغم ذلك كله، نراه مضطرباً في الكثير من المواقف من والعديد المزامير، يردد في حيرة من أمره هذا السؤال الرهيب النابع مما يشعر به في كيانه من فراغ مرعب إذ يلتفت حوله فلا يرى الرب وهو قد تعود على وجوده يسنده كالعادة فلا يتزعزع أمام أعداءه .
v لماذا تتوارى في زمن الضيق:
نلاحظ أن الأفعال المستخدمة في العبارة تعبر عن شعوره بالوحدة والذعر من الوقوف وحيداً وهو لا يرى الله سيد حياته ومولاه كما تعوده بجواره يسنده ويقويه ويدافع عنه ويأتي لنجدته ونصرته سريعاً...لا لأنه لم يعد موجوداً فهو الكلي والدائم الوجود، لكن لأنه متواري محتجب، أيكون قد حجب نفسه أم حجبته سحابة عنه أم حجبه بخطاياه التي جعلته ينفصل عنه أم هناك حكمة لا يدركها وراء هذا التحجب وذلك الاختفاء.
هذا هو نفس سؤال يسوع على الصليب وهو يرتل المزمور الثاني والعشرين "إلهي إلهي لما تركتني..." وهو نفس سؤال المسيحي والمؤمن في كل مكان وزمان في وقت الشدة والمحن والضيق، عندما يشعر أنه محاصر ولا منقذ له سوى الرب إلهه الذي يتوجب عليه – حسب رغبة المصلي- أن يتجلى ويمد يده ويظهر جبروته ويخلصه من يد الأعداء الظالمين وبذا يضرب عصفورين بحجر واحد إذ:
§ ينقذ ابنه البار الصديق من أيدي مضطهديه.
§ يظهر للأشرار أن هناك من يحاسب وينتقم فيرتدعون.
كلام منطقي لا ريب فيه، لكن الله لا يفعل ذلك رغم بديهية الفكرة ومنطقيتها!! فأفكار الرب ليست كأفكارنا وطرقه ليست كطرقنا وهذا ما سيتضح في نهاية المزمور بل وفي حياة الرب يسوع نفسها فردا على سؤال لماذا لا يتجلى في زمن الضيق؟ نجيب بسؤال: ترى لو تجلى الله وقت الصلبوت ونزل من على الصليب هل كانوا سيؤمنون به؟
وما تكون القيامة إذ لم يمت؟
وهل كانت ستنكسر شوكة الموت؟
وهل كان الخلاص سيتم ؟
أم سينال البشر النصر النهائي على الشر والأشرار ومعسكر الشر بأكمله؟
وأخيراً ما فلسفة الله من وراء ذلك الاحتجاب أو الوقوف موقف المتفرج المحايد؟ وما وقع ذلك على المرنم وعلى أعداءه؟
أمام كل هذه الأسئلة الحائرة لن نجد أفضل من إجابة الرب يسوع نفسه لتلميذيه العائدين إلى بلدة عماوس بعد قيامته "ما أغباكما وأبطأكما عن الإيمان بكل ما قاله الأنبياء أما كان ينبغي على المسيح أن يعاني هذه الآلام لكي يدخل إلى مجده؟ " (لو35-26).