ii. النشيد كمال الحب التصوفي والنسكي :
لقد كان لنشيد الأناشيد التأثير الكبير في عمق الحياة التصوفية المسيحية على مر تاريخ الكنيسة. فأوريجانوس يصف النشيد بأنه يتلاءم مع كمال الحياة الروحية، في آخر درجات مسيرة النفس إلى الله. ويُشبِّه أوريجانوس الحياة المسيحية بأنها ارتقاء يحاول من مرحلة إلى مرحلة أن ينمو في علاقة حميمة مع الله. لقد شبه أوريجانوس هذا النمو بسبع مراحل أو درجات سُلَّم يصل الأرض بالسماء، ولكل مرحلة أو درجة نشيد من الكتاب المقدس يرافق سبع مراحل من حياة إسرائيل إبتداءً من نشيد موسى (خر15) إلى نشيد داود (1أخ 16) وإنتهاءً بنشيد الأناشيد. وكما تجد أيام الأسبوع الستة راحتها في السبت، هكذا يكون نشيد الأناشيد بمثابة اليوم السابع وذروة الأناشيد كلها. من هنا يحُدِّد أوريجانوس ويُوضِّح، وهو أول من شدَّد على ذلك، أنّ عملية فهم النشيد وفقاً لمعناه الإلهي يفترض أن يكون المرء قد تقدم بما فيه الكفاية بمعرفة الله: "فمَن كان غريباً عن معرفة الله لن يرى فيه سوى تعبير عن حبِّ بشريّ قد تكون عباراته الملتهبة نفسها حجر عَثَرة في إطار الوحي الكتابيّ. وقد يرى فيه دعوة إلى التمتّع يخشى أن تجعل من النشيد، في نظره، نصّاً مُضِرّاً وفي المقابل، يُمكن للقارئ "الروحي" أن يرى في الكلمات نفسها تجلّياً لأعظم حبّ ودخولاً في سرّ قلب الله. وأكثر من ذلك، سيرى هذا الإنسان نفسُه أنّ معنى النصّ يتجدّد بقدر ما يتعمّق فيه اختبارُ الله، لأنّ "كُلَّ نَفْس تجذب كلمة الله وتُدخِله فيها وفقاً لقدرتها وإيمانها".
يتبع أوريجانوس في نفس الموضوع القديس برناردوس فيقول: "في نشيد العرس الذي هو نشيد الأناشيد، يبرز الحبّ من كل مكان. وإذا رغبنا في التوصّل إلى فهم ما نقرؤه فيه، فلا بدّ لنا من أن نحبّ. وإلاّ فإننا نسمع قصيدة الحبّ هذه أو نقرؤها عبثاً: من دون حبّ لا نتوصّل إلى شيء، والقلب البارد لا يمكنه أن يفهم شيئاً من كلمة النار هذه" (العظة 79/1 حول النشيد).
ويتوسّع غريغوريوس النيصيّ بطريقة مميزة في فكرة أوريجانس القائلة بأنّ النشيد يتناسب وأعلى درجة في الحياة الروحيّة, فيصف مفارقة الحياة الروحية حيث يستطيع الإنسان أن يتقدّم في معرفة الله، ولكن من دون أن يُلغى شيئاً من التعالي الإلهيّ. وخلافاً للفكرة اليونانية الشائعة بوجه عامّ في عصره، والقائلة بأنّ التغيير لا يمكنه أن يكون إلاّ تقهقراً وخسارة، أكّد أنّ الحياة الروحيّة نموّ وديناميّة وحركة. وبما أن الله لا يحدّه حدّ، فإنّ التماس وجه الله طريقٌ غير متناهٍ لا يولّد السير فيه أي تعب أو إعياء. وَوَصَف النفس التي يدفعها العريس إلى الأمام من وقت إلى آخر قائلاً لها: "قومي، تعالي"، وداعياً إياها باستمرار إلى الانتقال إلى مكان آخر. ولأنّ الكمال لا يعرف حدّاً، فهي تقدُّم مستمر، وتحوّل "من مجد إلى مجد"، كما يقول القدّيس بولس (2قور 3/18). فالمطلوب إذا، بحسب عبارة غريغوريوس الجميلة، أن "نذهب من بداية إلى بداية ببدايات لا نهاية لها أبداً".