د - القراءة المسيحية للنشيد
تبنّى آباء الكنيسة هذه القراءة اليهودية الرمزية وطبّقوها على العهد الجديد، ورأوا أن نشيد الأناشيد ينشد حب الله لشعبه في المسيح، هذا الحب الإلهي للبشر الذي سيتجلّى في ملء الزمان عندما يرسل الآب ابنه يسوع المسيح الذي من خلاله وبالاتحاد به يختبر الإنسان بشكل مطلق أن "الله محبة"(1يو4/8،16).
اختبار الحب هذا في النشيد الذي يجد صورته البشريّة في حبّ الرجل لامرأته، وصورته الإلهية في حب الله لشعبه، رآه أباء الكنيسة في نشيد حبّ المسيح للكنيسة وحب الكنيسة للمسيح مستندين في ذلك إلى نص الرسالة إلى أهل أفسس، حيث يُقابِل بولس الرسول حبّ المسيح للكنيسة بحبّ العريس لعروسه، ويُعلّم كيف ينبغي على المسيحيين المتزوجين أن يعيشوا (أف 5/25).
إن حب المسيح لكنيسته هو بمثابة وتد الحب الزوجي ونوره، وبكلمة أخرى، يتم تحوّل في حقيقة الحب البشري، بفضل حب الله المعلن في يسوع، والمعاش في الكنيسة. وهكذا لا يبدو في هذا الحب معنيان متضادان وكأنهما حُبّان: الحب البشري والحب الإلهي!
لقد كان يسوع "إلهاً حقا وإنسانا حقا"، لذلك لا تفصل الكنيسة ولا تُقيم، بأولى حجة، تَضادّاً بين الواقع البشري وسر الخلاص. ففي قلب كل أوجه الحياة البشرية - وبضمنها الحب والجنس- يتحقق الخلاص وتأليه أبناء الله. وإذا كانت حياة الرجال والنساء- وبضمنها الحب والجنس- قد تشوّهت بفضل الخطيئة، إلاّ أنها مدعوّة، بالمسيح، إلى الاهتداء وتجديد العلاقة معه والنمو في نعمته عبر الأسرار.
لكن القراءة المسيحية للنشيد تُشدِّد أيضاً على أنه نشيد الحبّ بين المسيح والنفس التقيّة. فالنفس التقية هي العروس، والرب يسوع هو العريس. ومن غير المستغرب هنا أن يكون سفر النشيد هو الكتاب الذي قرأه أكبر عدد من الرجال والنساء غير المتزوجين في الأديرة والبيوت الرهبانية: لقد تمّ تطبيق القراءة الرمزية على علاقة المسيح مع كل راهب أو راهبة. فالنشيد إنما يُشيد بالحياة الروحية، بارتفاعاتها وهبوطاتها، التي يعيشها أولئك الذين كان لهم المسيحُ الحبَّ الأول، لا بل الحب الوحيد، بانتظار رؤية وجهه والاتحاد به كُلّياً في الملكوت.
هكذا، فالقراءة المسيحية للنشيد لا تتوقف فقط على مستوى التكامل الجنسي ومستوى حياة الزوج مع زوجته واهتماماتهم الجسدية. إن القراءة المسيحية ترفعنا إلى مستوى الروح، إلى مستوى حبّ المسيح للكنيسة، إلى مستوى حب المسيح للنفوس المؤمنة، فنستطيع أن نقرأ هذا الكتاب ونتغذّى منه من أجل حياتنا الروحيّة والكنسيّة، لذلك وحدها النفوس التي يملؤها الروح تستطيع الولوج إليه والاستقاء من غناه.
إن نشيد الأناشيد هو كتيّب مهمّ جداً لأنه يربط العهد القديم بالعهد الجديد، ويربط الإله الخالق بالإله المحبّ، ويربط شعب التوراة بكنيسة المسيح، ويجعل كل النفوس المؤمنة على مستوى الروح الذي يُدخِلنا في تيّار الحبّ، حبّ الآب والابن، حبّ الله والعالم، حبّ المسيح ونفوس المؤمنين. لهذا، فالقراءة المسيحية لهذا الكتاب تحاول أن تَلِج إلى قلب الله الذي هو حبّ وعطف وحنان، والذي يريد أن يأتي إلينا ويجعل منّا مسكناً له.