الجمعة العظيمة(الحزينة)
عندما ذهب السيد المسيح الي بستان جثسيماني (يو18: 1) كان يعلم أن يهوذا يعرف هذا المكان ولم يرد أن يختفي بل كان مستعدا أن يقدم ذاته كفارة عن خطايا العالم حتي أنه لم ينتظر الجند ليسألوه من هو بل سبقهم وخرج لاستقبالهم وسألهم: من تطلبون؟ وكان ذلك في نصف الليل من ليلة الجمعة الموافق 15 نيسان.
ولما قبض الجند علي المخلص له المجد ورأي التلاميذ أن المعلم قد أوثق وأخذ تركوه وهربوا، غير أن اثنين منهم سكن روعهم وهما يوحنا الذي صمد الي النهاية ووقف عند الصليب وبطرس الذي لم يكمل طريقه ورأيناه ينكر سيده، هذان التلميذان تتبعا الجمع الي دار رئيس الكهنة حنّان الذي كان حمي قيافا.
وكان من عادة أعضاء المجلس أن يجتمعوا في احدي ديار الهيكل ولكن كان يجوز لهم الاجتماع في دار رئيس الكهنة ، ولعل غاية اجتماعهم هذا اخفاء مشورتهم عن الشعب لأن ديار الهيكل في ذلك الوقت كانت مزدحمة بالناس لمناسبة أيام الفصح.
ولما أمسك اليهود السيد المسيح له المجد قدموه أولا الي حنّان استجلابا لمصادقته لما كان له من سطوة قوية وجاه عظيم وأما هذا فأرسله موثقا الي قيافا ، وهكذا اجتمع أعضاء مجمع السبعين وعقدوا جلسة استعدادية غير رسمية، وبقي سيدنا له المجد أمام قيافا وباقي أعضاء المجمع الي قرب الفجر أو وقت صياح الديك ، وفي أثناء ذلك أنكره تلميذه بطرس ثلاث مرات.
ولما كان النهار اجتمع المجمع الكبير في صباح يوم الجمعة في الهيكل وأثبت حكم الجلسة السابقة غير الرسمية التي عقدت في الليل في دار رئيس الكهنة.
والحكم علي الرب يسوع بالموت في هذه الجلسة باطل ولا يعتبر الا مجرد تصريح برأي الأعضاء لأنه كان مخالفا لشريعة اليهود أن يجري فحص جناية في الليل، ويظهر من ذلك أن غضب رؤساء الكهنة كان شديدا علي الرب يسوع له المجد فاجتمعوا في الليل لكي يفتروا عليه بتهم ملفقة ، فسأله رئيس الكهنة :أأنت هو المسيح ابن الله؟ فلما أجاب يسوع علي هذا السؤال تظاهر قيافا (الذي كان رئيسا للكهنة بعد عزل حنّان) بالاشمئزاز من جوابه وحسبه تجديفا وقال أنه غير محتاج الي شهود بعد، فحكموا عليه بالاجماع بالموت ، غير أنه لم يكن لهم ولا لرؤسائهم قوة تنفيذ هذا الحكم ، ومزق رئيس الكهنة ثيابه وهذه هي العلامة المألوفة للحزن عند اليهود وقصد بها رئيس الكهنة أن يظهر اشمئزازه من فظاعة التجديف في وجوده وأن الرب يسوع قد زاد اثمه بتمزيق رئيس الكهنة ثيابه لأنه علي موجب شريعة موسي كان لايجوز لرئيس الكهنة أن يمزق ثيابه (لا21: 10) ومن ذلك الحين قد نزع من الأمة اليهودية نعمة الكهنوت .
وأخذوا الرب يسوع الي الحاكم الروماني بيلاطس لكي يأمر بصلبه ، ولا يخفي أن المجمع الكبير كان له وحده الحق الشرعي في الحكم علي الدعاوي الجنائية التي تستوجب القصاص ولكن الحكومة الرومانية كانت قد نزعت منه ذلك السلطان ، قبل هذا الوقت بعدة سنين، فأوثقوا المخلص وأتوا به الي بيلاطس كما ينص جميع البشيريين، وكان المقصود من ذهابهم اليه هو التصديق علي حكمهم ، حينئذ لما رأي يهوذا أن الرب يسوع قد دين ندم ورد الثلاثين من الفضة( مت27: 3).
ولما أرسل المخلص له المجد في المرة الأولي الي الوالي الروماني صحبه كل الجمع الكبير(لو23: 1).
ولابد أنهم كانوا يقصدون من تجمهرهم هذا والذهاب به في الصباح في موكب حافل من أدنياء وكبراء، أن يخدعوا بيلاطس ويقنعوه بأنه ارتكب جناية من أفظع وأشنع الجنايات التي لم يسمع بمثلها، ولما أخبر بيلاطس أن أعضاء المجلس الكبير أتوا اليه بمذنب، وأنهم لا يقدرون أن يدخلوا الي الوالي في دار الولاية تبعا للقانون الذي يحرم عليهم دخول بيوت فيها خمير لئلا يتنجسوا قبل أكل الفصح، فدفعوا بالرب يسوع الي بيلاطس أما هم فلبثوا أمام الباب في الطريق حينئذ خرج بيلاطس نفسه لملاقاتهم، ولاريب أنهم كانوا يطمعون في اثبات حكمهم حالا بدون ذكر الأسباب التي دانه عليها المجمع الكبير، غير أنه قد خاب أملهم عند سؤال بيلاطس لهم :أية شكاية تقدمون علي هذا الانسان؟! فاضطروا الي أن يقرروا الذنب الموهوم، فأسفرت النتيجة الي اعلان بيلاطس أنه لم يجد علة في هذا الانسان تستوجب الموت.
واذا كان بيلاطس حائرا ماذا يفعل من ليتخلص من ادانة السيد المسيح له المجد خطر في باله أنه يمكن أن يخلي نفسه من هذه المسئولية بارساله الي هيرودس أنتيباس رئيس الربع في الجليل(لو23: 7) وهذا كان ثاني أبناء هيرودس الكبير وكان مثل أبيه راغبا في المجد والعظمة ورغد العيش وهو الذي سماه ربنا له المجد بالثعلب (لو13: 32) فقبل هيرودس مخلصنا بكل فرح لأنه كان مشتاقا من زمن طويل أن يراه، واذ اشتهي أن يعلم عنه شيئا أخذ يسأله كثيرا لكن السيد المسيح لم يخبره بشيء مما سأله(لو23: 8، 9) وترجاه أن يصنع أمامه اّية فلم يصنع حسب ما اقتضت حكمته الالهية فهزأ به مع جنوده، أما يسوع فبقي ساكتا أيضا ولم يجبه بشيء .
وقد اعتبر هيرودس ارسال بيلاطس بالرب يسوع اليه ما هوالا علامة حب واعتبار له، وكان ذلك وسيلة لارجاع الصداقة بينهما، والتي كانت قد انحلت عراها بسبب ذبح بيلاطس الجليليين المذكورين في (لو13)،
ثم رد الرب يسوع له المجد من عند هيرودس الي بيلاطس ثانية وكان بيلاطس مازال مصمما علي اطلاقه، فجلس في هذه المرة علي كرسي القضاء رسميا وأعلن أنه قد فحص الامر فحصا دقيقا، فلم يجد في الرب يسوع علة واحدة تستوجب الموت ، وقد أقر هيرودس أيضا بهذا، ولذلك قال أنه سيؤدبه ويطلقه، اّملا بذلك أنيرضي اليهود خاصة الكهنة فلم يرض أحدا منهم بل ارتفع صراخ الجمع:أصلب لنا هذا واطلق باراباس ومعناه (ابن عباس) وهو رجل اشتهر بسفك الدماء وارتكاب المعاصي، وكان ملقي في السجن بسبب الفتن والقلاقل التي كان يحدثها ، ومما يستحق الالتفات اليه أن باراباس كان مجرما بذات الجرم الذي ادعي رؤساء الكهنة كذبا به علي المخلص وهو الفتنة، وبهذا لا يمكن تقديم أكبر برهان علي انحطاط وخبث تلك الأمة أوضح من بذلهم كل مافي استطاعتهم ليطلبوا من الحاكم الروماني اطلاق سراح باراباس الأثيم وادانة المخلص البار .
حينئذ لما رأي بيلاطس أنه لا فائدة من ذلك بل بالحري يحدث شغبا أخذ ماء وغسل يديه أمام الجمع قائلا: اني بريء من دم هذا البار أبصروا أنتم (مت27: 24) ولم يكن هذا القول مبررا لبيلاطس لأنه وان كان قد غسل يديه بالماء لكنه لم يغسل قلبه من الذنب ، لأنه سلم للموت من كان قد حكم ببراءته بمجرد صراخ الشعب بما هو مخالف لاعتقاده ولما لم يقدر أن يقنع الكهنة والرؤساء .
أسلم المخلص له المجد ليجلد أولا ثم ليصلب .
وأخذوا يسوع حاملا صليبه ومن شدة الألم لم يستطع أن يكمل الطريق فسخروا شخصا وهو سمعان القيرواني ووصلوا الي الجلجثة وهو الموضع الذي فيه كان معد لصلب المخلص ودقت المسامير في لحمه واحدا في يده اليمني وواحدا في اليسري وواحدا في أرجله الاثنتين وارتف الصليب حاملا المخلص وعلي رأسه اكليل من الشوك وفوق رأسه مكتوب هذا هو ملك اليهود ورحم الرب اللص اليمين الذي طلب أن يذكره في ملكوته وأيضا علي الصليب سقيى المخلص خلا وطعن في جنبه الأيمن وأنزل ماءا ودما وكان قد أوصي يوحنا الحبيب أن يتخذ العذراء مريم أما له وأستودع المخلص روحه في يد أبيه وأسلم الروح وهكذا قد خلص الابن البشرية كلها من حكم الموت وعتقهم من الجحيم وردهم مرة أخري الي حياتهم الأولي .