«ثقبوا يدي ورجلي»
ما أقسى عملية الصلب. فأن تثقب اليدان والرجلان، هذه المناطق الممتلئة بالأعصاب الحساسة، التي عندما تتهيج ينتج عنها آلام تفوق الوصف، يعبِّر عنها لا إرادياً تحرك كل عضلات الوجه، ناطقة بقسوة الألم وقد جاوز الحد.
هاتان اليدان اللتان لم تكلا مطلقاً من فعل الخير العميم وشفاء جرح المتعبين، والرجلان اللتان حملتاه عبر طرق العالم المتربة المتعبة وصولاً لكل بائس محتاج. ماذا فعل بهـا البشر؟
سمروها فوق الخشب؟! آه ما أقسى أيادي صنعت هذا العجـب!
الكنيسة لا تنسى مطلقا موت الصلب، ستظل كوصيته العزيزة عليها نصنع ذكراك في كل أول أسبوع في سر القربان المقدس، ونخبر بموتك إلى أن تجيء. ونحن نعرف أنك في عشية يوم القيامة ظهرت لتلاميذك وأريتهم يديك ورجليك (لو24: 39،40)، ولازلت ترينا نفس هذا المنظر الأثير. بل إننا عندما نصل إلى المجد سنراك كخروف قائم كأنك مذبوح، وهناك أيضا لن ننسى موت الصليب!
«أحصي كل عظامي. وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ» (ع17).
والعبارة الأولى تدل على مقدار نحافته، فهو باللغة الدارجة "جلد على عظم"، ذاك الذي غيرة بيت الله أكلته والتهمته التهاماً.
أما العبارة الثانية فيعبر المسيح فيها عن آلام نفسه الحساسة عندما أطال الأشرار نظراتهم الوقحة لجسده الذي علق عارياً فوق الصليب. آه، لو عرفوا من هذا الذين يتفرسون فيه هكذا بلا خجل أو حياء، لو عرفوا أنه الذي تغطي الملائكة وجوهها أمام هيبته، لو عرفوا أنهم سيقفون يوماً أمامه ليدانوا، وفي ذلك اليوم الذي فيه سيجلس على العرش العظيم الأبيض ستهرب من وجهه السماوات والأرض! نعم، «لو عرفوا لما صلبوا رب المجد» (1كو2: 8)!
والنظرات إلى الصليب والمصلوب أنواع كثيرة في الكتاب؛ فهناك النظرة المحيية ( الحية النجاسية.عد21: 8، يو3: 14،15)، المخلصة ( التفتوا الي واخلصوا ياجميع اقاصي الارض .إش45: 22. لكن هذه النظرة المذكورة هنا نظرة مهلكة ستجلب على أصحابها أشد الويلات.نتذكر قديما أن أهل بيت شمس تجاسروا في جهل عدم الإيمان ونظروا إلى التابوت، تلك القطعة المقدسة في بيت الله التي ترمز وتشير إلى المسيح، فمات منهم الآلاف الكثيرة (1صم6: 19). لكن لما جاء رب المجد نفسه، في يوم ضعفه، فقد علقوه على الصليب، وأخذوا ينظرون ويتفرسون فيه.
لكن حمدا لله، فكما تنبت الزنبقة البيضاء الطاهرة وسط الأوحال، هكذا أيضاً بين نظرات الأشرار الوقحة في يوم الصلب، كان هناك فريق آخر له النظرة المقدسة، فيخبرنا لوقا أن جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل كانوا واقفين من بعيد ينظرون ذلك (لو23: 49). ونحن أيضاً مع هذا الفريق ننظر ونتفرس خلال اسبوع الالام، لكن ما أبعد الفارق بين نظرات ونظرات؛ نظرات الشماتة والجحود، ونظرات التعبد والسجود لهذا المصلوب
ثم يقول المسيح: «يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» (ع18).
ولقد أشير إلى هذا العمل في كل البشائر (مت27: 35، مر15: 24، لو23: 34، يو19: 24). لقد قدر هؤلاء العسكر اللباسولم يقدروا صاحبه. عرفوا قيمة الثوب غير المخيط، المنسوج من فوق إلى أسفل، ولم يعرفوا ما كان يصنعه المصلوب إذ كان ينسج للإنسان العاري ثوب بر إلهي بغير خياطة بشرية.
ويا للمفارقة الكبيرة بين آدم الذي جلب على نفسه وعلى نسله العري والعار، بل الهلاك والدمار، وبين آدم الأخير الذي لأجلنا تعرى كيما يكسو عرينا برداء البر الثمين، ويمتعنا بالحلة الأولى، كيما نسعد معه في بيت الآب إلى أبد الآبـدين.
ثم يختم المسيح كلامه في هذا القسم الأول بالقول:
«أما أنت يا رب فلا تبعد، يا قوتي أسرع إلى نصرتي. أنقذ من السيف نفسي، من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد، ومن قرون بقر الوحش استجب لي» (ع19-21).
ولقد سبق أن أشرنا إلى أن القسم الأول من المزمور (ع1-21) يصور لنا آلام المسيح الثلاثية المصدر؛ من الله والإنسان والشيطان. وها المسيح في ختام زفرات الألم يلخص تلك الآلام طالباً من الرب إلهه أن ينقذه من ثلاثة أمـور.
1 . «أنقذ من السيف نفسي»: إنه سيف العدل الإلهي؛ سيف لهيب النار الذي نقرأ عنه في تكوين3: 24، وزكريا 13: 7.
2 . «من يد الكلب وحيدتي» : هنا نرى شراسة الإنسان، لا سيما الأمم وعلى رأسهم بيلاطس البنطي الدي يمثل الامة الرومانية.
3 . «خلصني من فم الأسد» : بطش الشيطان، الذي هو كأسـد زائر.
من هذه الثلاثية القاسية طلب المسيح من إلهه الإنقاذ؛ أن ينقذ من عدالة الله، وقساوة الإنسان، وبطش الشيطان. فسمع له الله من أجل تقواه
( عب 5 / 7 - 7).