تفصيلات الألم
ثم يلجأ المسيح في الأقوال التالية إلى التفصيلات:
ففي الأعداد من 12-15 يشير إلى شعب اليهود. (ثيران واسود)
وفي الأعداد من 16-20 يشير إلى الأمم. (كلاب اشرار)
ثم في ع21 يشير إلى زعيمهم، الذي يعمل فيهم ويعمل من خلفهم جميعاً؛ أعني الشيطان. (فم الاسد- قرن الوحش).
وقبل التأمل في هذه الآيات الثمينة التي تشرح لنا تفصيلات الألم آية آية، والتي فيها نرى ما صار لمعبود القلب على أيدي خبثاء القلب القساة، نتذكر يوسف عندما ذهب ليفتقد سلامة اخوته، فإنهم عندما رأوه من بعيد قالوا «هوذا هذا صاحب الأحلام قادم. فالآن هلم نقتله». وكم كان قاسياً علي يوسف أن يعامل من إخوته بمثل هذه المعاملة القاسية؛ ينزعون عنه القميص الملون ويطرحونه في البئر ويبيعونه بعشرين من الفضة، ويرون ضيقة نفسه ولا يرحمونه. كان هذا مؤلماً على نفسية يوسف. لكن يوسف هو أولاً وأخيراً إنسان، مقرص من الطين نظيرنا. أما المسيح فليس كذلك، إنه ابن محبة الآب، وموضوع تعبد الملائكة. إنه «الصانع ملائكته رياحاً وخدامه لهيب نار» (عب1: 7). وهو لم يأت فقط ليفتقد بل ليفتدي. جاء ليساعد الإنسان ويخلصه. فماذا فعلوا به؟
أحياناً يقول الواحد منا: ماذا فعلت كي أعامل بمثل هذه المعاملة؟ وقد تكون الإجابة إنك لم تفعل شيئاً تستحق بسببه أن يفعلوا بك ما فعلوا. أما المسيح فليس كذلك، فهو ليس فقط لم يفعل ما يستحق من أجله المعاملة القاسية، بل عمل كل ما يستحق من أجله الإكرام والحب. قال مرة لليهود «أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي بسبب أي عمل منها ترجمونني» (يو10: 32). وقال عنه بطرس «الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه.. صلبوه معلقين إياه على خشبه» (أع10: 38). حقاً تمت فيه كلمات المزمور «بدل محبتي يخاصمونني .. وضعوا على شراً بدل خير وبغضاً بدل حبي» (مز 109: 4،5). فما أبشع قلب الإنسان الذي تعامل هكذا مع الذي جاء إليه ويده مملوءة بالخير والبركة.
يقول المسيح هنا في وصف آلامه:
«أحاطت بي ثيران كثيرة أقوياء باشان اكتنفتني، فغروا علي أفواههم كأسد مفترس مزمجر» (ع12،13)
تشتهر منطقة باشان بخصوبة مراعيها، والبقرات بها سمينة وتنطح. وثيران باشان صورة لقادة الأمة اليهودية كما نفهم من قول عاموس النبي «اسمعي هذا القول يا بقرات باشان التي في جبل السامرة» (عا1:4). وهم في هذا صورة للقوة الجامحة والكبرياء المتمردة!
هذا عن قوتهم، أما عن سلوكهم فيقال إن الثيران عندما تشاهد أي جسم غريب فإنها تحيط به في دائرة، ثم تهجم عليه مع أول إثارة، وتعمل فيه نطحاً وتنكيلاً. هكذا كان رؤساء أمة اليهود. لقد أحاطوا بالمسيح لاسيما في المحاكمة طالبين صلبه، مفضلين عليه رجلاً قاتلاً. لقد «فغروا (عليه) أفواههم كأسد مفترس مزمجر».
سيتحدث الرب بعد ذلك عن الجند الرومان قائلاً «أحاطت بي كلاب»، وهناك فارق بين الكلاب والأسد، فالكلاب تمزق بأنيابها، أما الأسد فإنه يفترس. فقد يلذ للجنود الرومان قساة القلب أن يجلدوا الرب يسوع، أما قادة الأمة اليهود فلم يكن يكفيهم أقل من قتله. وهؤلاء الذين كانوا كالنعامة الجبانة أمام بطش الرومان استأسدوا على حمل الله الوديع!
ثم يقول المسيح «كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع قد ذاب في وسط أمعائي» (ع14)
وعندما يقول المسيح «كالماء انسكبت» فهذه صورة لمنتهى الضعف؛ لأنه هل توجد صعوبة في سكب الماء؟ إن أضعف شخص بوسعه أن يفعل ذلك. وعندما ينسكب الماء يتبعثر إلى جهات شتى ويستحيل جمعه، كما أن سرعة الماء تزداد مع سقوطه، ولا توجد لديه أية إمكانية للتماسك، ولا لأن يرجع إلى وضعه الأول. وهذا كله صورة للضعف المتناهي.
لكن الماء المهراق ليس فقط صورة للضعف بل أيضاً لاستحالة جمعه من جديد. لقد أهرق وتبعثر وانتهى الأمر. قالت المرأة التقوعية لداود «لأنه لابد أن نموت ونكون كالماء المهراق على الأرض الذي لا يجمع أيضاً» (2صم14:14). هكذا ظن الأعداء أنهم تخلصوا من المسيح إلى الأبد، وأن أمره انتهى كالماء المهراق.
أليس عجيباً أن ذاك الذي اسمه دهن مهراق (نش1: 3)، من أجلي ومن أجلك صار كالماء المهراق !
ثم يستطرد المسيح فيقول «انفصلت كل عظامي» ما أشد الآلام التي نحس بها عندما تنخلع عظمة واحدة من مكانها. لكن المسيح لم تكن هناك عظمة واحدة في مكانها، وذلك من عملية الصلب القاسية. فما أعظم الآلام التي كان المسيح يعانيها.
ثم إن العظام هي التي تعطي الهيئة العامة للإنسان. وأن تنفصل العظام كلها يعني أن الجسد لم يصبح له أي شكل على الإطلاق!
لقد قال عنه النبي «كان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم» (إش52: 14). فالوجه الجميل فسد، والهيئة العامة تلفت تماماً.
ثـم يقـول:
«صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي»
أسد سبط يهوذا ذاب قلبه في يوم حمو غضب الله (نا1: 7). فماذا سيفعل الخاطئ في ذلك اليوم العصيب؟ «لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف؟» (رؤ15:6-17).
يتحدث المرنم عن يوم ظهور الرب فيقول «ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب قدام سيد الأرض كلها» (مز5:97). وليس فقط الجبال ستذوب في ذلك اليوم، بل تفكر في مصير الخطاة الآثمين الذين رفضوا محبته والإيمان بصليبه. يقول الكتاب «لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم، وعيونهم تذوب في أوقابها، ولسانهم يذوب في فمهم». (زك12:14). أما في يوم الصليب العصيب فقد ذاب قلب المسيح في داخله.
فإذا أضفنا الشمع الذائب إلى الماء المهراقوالعظام المنفصلة نحصل على ثلاثية تؤكد نفس الفكرة؛ عدم وجود هيئةولا كيان محدد للمسيح، ليس خارجياً فقط، بل وداخلياً كـذلك.
يواصل المسيح وصف آلامه فيقول «يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي وإلى تراب الموت تضعني» (ع15).
مرة أخرى ذاك الكلي القدرة «هو.. شديد القوة. من تصلب عليه فسلم. المزحزح الجبال ولا تعلم، الذي يقلبها في غضبه، المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها. الآمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم. الباسط السماوات وحده، والماشي على أعالي البحر، صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب، فاعل عظائم لا تفحص وعجائب لا تعد» (أي9: 4-10) ها هو يقول يبست مثل شقفة قوتي!! مجرد شقفة يابسة، يسهل كسـرها!!
في مزمور 102 نسمعه كالمسكين الذي أعيا يقول «ضعَّف في الطريق قوتي، قصَّر أيامي»، فيجيبه الله «من قدم أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك». فذاك الذي تعلن السماوات والأرض قدرته السرمدية ولاهوته، كان في بستان جثسيماني مسكيناً أعيا، يصلى إلى إلهه. وهناك في البستان ظهر له ملاك من السماء ليقويه! وأما الآن وهو فوق الصليب فإنه يصرخ إلى إلهه، وهو بدون قوة على الإطلاق.
أما لسانه، فإنه من سعير النيران التي تحملها، فقد لصق بحنكه. وإننا مرة أخرى نتساءل؛ من هذا الذي نراه هنا بحنك يابس؟ إنه الذي كال بكفه المياه (إش40: 12)، الذي يروي أتلام الأرض وبالغيوث يحللها (مز65: 10). إنه المفجر عيوناً في الودية بين الجبال تجري، تسقي كل حيوان البر، تكسر الفراء ظمأها (مز104: 10،11). ولقد صار حنكه يابساً من هول ما احتمل من سعير رهيب. إن نار الله التي نزلت في أيام إيليا وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه (1مل18: 38)، هي التي احتملها بديلنا القدوس على الصليب. فهو خروف الفصح الحقيقي الذي لم يكن يطبخ بالماء بل يشوى بالنار (خر12: 8،9). وهذا هو فعل النار فيه. وهو إن كان أتى على كل نيران غضب الله وأمكنه أن يقول «قد أكمل»، لكن بعدها مباشرة أتت النهاية؛ حيث يقول «إلى تراب الموت تضعني»!
«لأنه قد أحاطت بي كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي» (ع16).
سبق في ع12 أن قال «أحاطت بي ثيران»، هذه تمثل قادة الأمة الإسرائيلية، أما في ع16 فيقول «أحاطت بي كلاب» وهؤلاء يمثلون الأمم (انظر متى 26:15). من أجل ذلك يقول بعدها مباشرة
«ثقبوا يدي ورجلي»، والذي فعل ذلك هم الجنود الرومان.
ولقد كان الصيادون يستخدمون الكلاب المدربة لتحيط بالفريسة التي يريدون الإيقاع بها. هذا ما فعله صياد البشر الأكبر (الشيطان) عند الصليب، إذ استخدم أعوانه الأشرار والقتلة نظيره. وإذا كانت الكلاب المدربة تمزق فرائسها بأنيابها، فإن هؤلاء مزقوا المسيح بسياطهم ومساميرهم وشـوكهم!