خامساً : خاتمة المزمور
مع أن هذه القصيدة تُصنف كقصيدة شكوى وتوسل، لكن الفكرة الأساسية فيها هي "طرق الرب"، التي يتضرع المرنّم طالباً للتعرف عليها والسلوك فيها.لذا فلهذا المزمور طابع خاص، إذ يتحدث عن السيد المسيح بكونه المعلم، وقد ركز على سمة المعلم كما كشف لنا عن دور التعليم في حياة المؤمنين؛ فالمعلم - في عينيّ داود المتالم - لا يقدم معلومات عقلانية أو معرفة ذهنية مجردة، إنما هو أولاً وقبل كل شيء مخلص وأب وراعي وصديق وطبيب. وعمل المعلم القدوس هو أن يهب الحياة الكاملة، فيقدم المعلم الإلهي: طريقاً ملوكياً ووصية مقدسة ترضي، واستقراراً في الله الخير الاعظم. وميراثاً مقدساً ثم كشفاً عن الأسرار الإلهية.
يكشف الرب الحق لخائفيه ويقدسهم، هكذا تتحول المعرفة الإلهية إلى تدريب حيّ في حياتنا وإلى حياة معاشة، ولا تكون مجالاً للحوار والمناقشة الفلسفية البحتة. يدربنا الرب نفسه في الحق، فنجد تعاليمه عملية. وكأن طريقه أو سبيله هو أسلوب الحياة التي ترضيه. نحن ننال هذه الحياة بدخولنا مع الله في عهد نعمته، متقبلين إرشاده الإلهي ومتمتعين بنعمته.
ما أسهل أن يدرب الإنسان الطيور لتتكلم والحيوانات المفترسة لتصير أليفه، أما نفسه فلا يقدر أحد أن يدربها إلا الله وحده، مدرب النفوس البشرية، ومقدس الأجساد، وضابط الفكر بروحه القدوس.كل الحكمة والفهم هما منه، ومعرفة كل الخير تأتينا من فوق من العرش العلوي الفائق، كما من ينبوع. وما من إنسان يقدر أن يفعل شيئاً يستحق المديح ما لم ينل قوة منه؛ وهو يعلمنا ذلك بنفسه، قائلاً: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" إن كان من جانب المعلم الإلهي العطاء بفيض، يهب الاستنارة والفهم مع الإرشاد والتدريب للتمتع بمعرفة وممارسٍة حقه كحياة معاشة، فعلينا من جانبنا أن نلتزم بروح الوداعة والاتضاع، فتتهيأ نفوسنا لقبول عطاياه الروحية، إذ يقول المرنّم
نحسّ في هذا المزمور الألم الناتج عن الخطيئة، ونفهم أن الغفران المنتظَر هو علامة الخلاص، لأن الله غفور رحيم. وهذا ما سيتعلّمه المؤمن بصلاته هذا المزمور فيعرف أن محبّة الله واسمه هما أساس المغفرة، وأن كل ما يُطلب منه هو ثقة عمياء بالله وبرحمته.
كما يعبّر هذا المزمور عن الروح التي دفعت يسوع إلى أن يتأنس، فيربط مصيره بمصير الخطأة (متى 9: 11) ويقودهم إلى النقاوة التي يتوق اليها صاحب المزامير (ا تيموثاوس 1: 15). مات يسوع من أجل الخطأة (رومية 5: 8) وما استحى أن يدعوهم إخوته (عبرانيين 2: 11)، بل أرادهم أن يسيروا في حياة جديدة (رومية 6: 4) غير خائفين من مغبة الجهاد ضد القوات المعادية (أفسس 6: 10- 12) لأن نعمة الرب وقدرته هما سلاحهم، ولأن رجاءهم أبداً لن يخيب. هكذا تظهر رحمة الله التي يحتفظ بها للخطأة.
تهدف مثل هذه المزامير إلى أن تمدح كلمة الله، التوراة، وتميل بعض المرّات إلى مديح الحرف. لا شكّ في أن هناك خوفاً من أن نطوِّب الحرف متناسين كلام بولس الرسول: "الحرف يقتل أمّا الروح فيحيي" (2 كور 3: 6). ولكن يبقى علينا أن نفسّر هذا المزمور على أنه مديح لله الذي كلّم البشر وأوحى لهم كيف يدوّنون هذه الكلمة وينقلونها فيسمعهم الآخرون ويفهمون ما يقولونه لهم. ثم نصلّي هذا المزمور فنمدح كلمة الله اليوم كما بالأمس ونقول: يعلّم الخاطئين طريقه ويُشركهم في عهده.
يا ليت الرب لا يبدّل موقفه! ولكن لا نخف فهو لن يبدّله لأنه الاله الأمين، الذي يحافظ على وفائه ألفَ جيل. يا ليت الرب يحفظ لنا رحمته! ولكنه الرحوم الحنون، ولكنه كأم لا تنسى أبناء رحمها، كأب لا ينسى أولاده. ولهذا يطلب المؤمن من الرب أن يذكر عبده، أن يتذكّره ولا ينساه.