4- انتقال مريم العذراء إلى السماء
"في عقيدة انتقال العذراء، لم يعط لوثر حكمًا واضحًا، بل اكتفى بالقول في 15 آب 1522: "لا نستطيع من هذا الإنجيل أن نستنتج طريقة وجود العذراء في السماء. وعلى كل حال ليس من الضروري أن نعرف مصير القدّيسين في السماء، بل يكفي أن نعرف أنّهم يحيون في المسيح كما قال الله في متّى 22: 32: "الله ليس إله أموات بل إله أحياء"، مستندًا إلى نص سفر الخروج 3: 6: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب".
وقد كتب بولينجر من جهته سنة 1565: "يعلن اللاهوتيّون الأكثر علمًا أنّه لا يستطيع أحد أن يجزم في موت العذراء أو انتقالها. وإن أردنا البحث في بعض الأحداث التي لا يتكلّم عنها الكتاب المقدّس وأردنا إيضاحها، ففي ذلك خطر. فلنكتفِ بالإيمان بأنّ مريم العذراء هي فاعلة الآن في السماء، مشتركة في السعادة كلّها". إلاّ أنّه هو نفسه عاد فكتب سنة 1568 في الموضوع عينه، فقال: "إنّ إيليّا قد انتقل بجسده ونفسه على مركبة من نار، ولم يُدفَن جسده في أيّة كنيسة بل صعد إلى السماء، لنعرف من جهة أيّ خلود وأيّ مكافأة يعدّ الله لأنبيائه الأمناء وخلائقه البارزين الفريدين، ومن جهة أخرى لينزع من الناس إمكان تكريم جسد هذا القدّيس. لهذا السبب، حسب اعتقادنا، نقل الملائكة إلى السماء الجسد المقدّس وهيكل الروح القدس، جسد والدة الإله مريم العذراء الطاهرة والمنزّهة عن كل عيب".
إنّ معظم البروتستنتيّين اليوم يرفضون عقيدة انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها إلى السماء. يقول ماكس توريان: "عيد الانتقال القديم في 15 آب أكثر دقّة لاختلاف المفاهيم المتعلّقة بدخول مريم في راحة الله: إنّ إخوتنا الكاثوليكيّين والأرثوذكسيّين يؤمنون بانتقال العذراء إلى السماء بجسدها، والبروتستنتيّين يؤمنون بموتها فبدخولها إلى السماء وانتظارها القيامة، شأنها في كلّ ذلك شأن سائر المسيحيّين. ومع ذلك، فبروح مسكونيّة، وبدون اختلاط في العقيدة، يبدو أنّه بإمكاننا أن نعيّد جميعنا في اليوم عينه لدخول مريم في راحة الله، مهما كانت العقيدة التي تعرض لنا هذا السرّ أو الإيمان الذي يدركه. يستطيع البروتستنتيّون أن يعيّدوا في 15 آب بالروح الذي أوحى هذه الأسطر لشارل دريلنكور، هذا القس الكلفيني الفرنسي من القرن السابع عشر، وقد ذكرناه سابقًا بضع مرّات: "كما أنّها نالت على الأرض أثمن نعمة وأندر حظوة يمكن خليقة أن تكرَّم بها، كذلك تتمتّع الآن في السماء بأرفع وأسمى مجد تقدر عليه نفس بشرية... إذا كان يوسف قد استقبل بدموع الفرح أباه الذي ذهب إلى مصر لرؤية وجهه والاشتراك في ثمار كراماته، فكم بالأحرى ابن الله، مخلّص العالم وفاديه، يكون قد استقبل بابتهاج هذه الأمّ الطوباويّة... التي صعدت إلى السماء لتتأمّل مجد نعيمه".
5- مريم العذراء رمز الكنيسة وأمّ المسيحيّين
يقول ماكس توريان، تعليقًا على قول يسوع ليوحنّا الواقف مع مريم العذراء أمام الصليب: "هذه أمّك": "يستطيع التلميذ الذي يحبّه يسوع أن يقول عن مريم إنّها أمّ يسوع وأمّه شخصيًّا، فيحقّق الصداقة الحميمة التي تربطه بالمسيح، ربّه وأخيه. مريم، أمّ يسوع وأمّه، هي الشخص الذي يستطيع أكثر من أي شخص آخر أن يقرّبه من المسيح سيّده وربّه، وقد كانت وإيّاه شاهدة على ساعات المصلوب الأخيرة، وسمعت آخر كلماته، وقبلت الروح الذي أسلمه إلى كنيسته. فمريم هي له، وبه لجميع التلاميذ وللكنيسة التي تجتمع حولهم، علامة قريبة لحضور الربّ، أمّ روحية في الجماعة المسيحية، وهي الأكثر إكرامًا من بين الأمّهات الروحيّات التي يجدها المسيحي في الكنيسة. إنّها الأمّ الروحيّة بكلّ ما في هذا التعبير من عمق وسموّ للتلميذ الحبيب والأمين، أي لكلّ مسيحي. لأنّ كلّ مسيحي هو أخ ليسوع... مريم هي بالنسبة للتلميذ الذي كان يسوع يحبّه، ولكلّ التلاميذ معه، صورة الكنيسة-الأمّ، والأمّ الروحيّة التي يجدها في الكنيسة من يؤمن بالمسيح (راجع مر 3: 31- 35). وتستطيع، بقدرة الروح، أن تنقل إلى التلاميذ وإلى الكنيسة الأولى كلّ ما تعرف عن يسوع، ابنها الحبيب، وما حفظته وما تأمّلته في قلبها (لو 2: 19، 51). ستحمل بتواضع إنجيل ابنها، لا على طريقة الرسل المبشّرين، بل على طريقة أمّ محبّة تعمل بصمت، أمّ بشريّة لابن الله الذي عرفته في أعماقه أكثر من أيّ شخص آخر، وأمّ روحيّة للتلاميذ تساعدهم على أن يتذكّروا كلّ ما قاله المسيح وعمله، وكانت له شاهدة متيقّظة وأمينة. بإيمانها ورجائها ومحبّتها وصلاتها، ستكون أمًّا روحيّة في الكنيسة-الأمّ التي هي صورتها الحيّة والمتواضعة".
ثمّ يعرض المؤلّف بعضاً من أقوال لوثر في هذا الموضوع:
"إنّه لفرح عظيم يتحدّث عنه الملاك. وهي تعزية الله ورحمته الفائضة. فيحقّ لكلّ إنسان أن يفتخر بكنز كهذا: مريم هي أمّه الحقيقية والمسيح أخوه والله أبوه".
"أظنّ أن لا أحد منّا يرفض أن يترك أمّه ليكون ابن مريم. ويمكنك الوصول إلى ذلك. بل هذا معروض عليك، وهو فرح أعظم ممّا لو كنت تعانق أمّك وتقبّلها بقبلات حقيقيّة".
"مريم هي بحق أمّنا. ولكن إذا أردنا أن نبني على ذلك، فنأخذ من المسيح كرامته ورسالته ونعطيها لمريم، فهذا يعني إنكارًا لآلام المسيح".
"مريم هي أمّ يسوع وأمّنا جميعًا... فإذا كان (يسوع) خاصّتنا، وجب أن نكون نحن في وضعه. فحيث هو، يجب أن نكون أيضاً، كلّ ما له يجب أن يكون لنا، وأمّه هي أيضاً أمّنا".
ويرى لوثر علاقة حميمة بين العذراء والكنيسة. فالعذراء هي صورة الكنيسة، فهي ولدت المسيح، والكنيسة تلد إخوة المسيح. يقول: "إنّنا نختلف في الولادة الجسديّة. ولكنّنا، في العماد، كلّنا أبناء أبكار للعذراء، أي للكنيسة التي هي العذراء النقيّة بالروح. عندها كلمة الله النقيّة، تحملها في أحشائها. هنا نحن الثمار الأولى الحقيقيّة (البواكير)، لنكون ملك الربّ إلهنا".
ويتابع المؤلّف تلك الصورة فيقول: "تلد الكنيسة أبناء الله الآب، إخوة يسوع، بقدرة الروح القدس، وتغذّيهم، وتعتني بهم. بكلمة الله والمعموديّة تلد المؤمنين الجدد إلى عالم الإيمان والرجاء والمحبّة، وبالإفخارستيّا تغذّيهم بجسد الربّ ودمه المحيِيَيْن، وبالحلّ تعزّيهم في رحمة الآب، وبالمسحة ووضع اليد تمنحهم شفاء الجسد والنفس.
"إنّ كلّ خدمة تمارسها تتّسم بسمة الأمومة الروحيّة هذه. لقد كتب بولس، لنفسه ولجميع الرعاة الذين يرتسمون لخدمة الكنيسة من أجل بناء كهنوت المؤمنين الملكي: "أيّها الكورنثيّون، إنّ فمنا قد انفتح إليكم وقلبنا قد اتّسع. لستم متضايقين فينا... إنّي أكلّمكم كأبنائي. وسّعوا أنتم أيضاً قلوبكم... لقد قلت لكم آنفًا: إنّكم في قلوبنا للحياة وللموت. إنّ لي بكم ثقة عظيمة، ولي بكم فخرًا عظيمًا، ولقد امتلأت تعزية، وأنا أفيض فرحًا في كل ضيقنا" (2 كو 6: 11- 13؛ 7: 3- 4)، "وما عدا هذه، ما يتراكم عليّ كلّ يوم، والاهتمام بجميع الكنائس. فمن يضعف ولا أضعف أنا، من يعثر ولا أحترق أنا؟" (2 كو 11: 28- 29). أليس هذا الكلام شبيهًا برسالة أمّ لأبنائها؟ يبدو بولس في رسائله أحيانًا أبًا، وأحيانًا أمًّا. وفي خدمته يحقّق رسالة الأمّ في الكنيسة. هذا العطف وهذا الحنان اللذان يميّزان قلب الأمّ عرفهما أيضاً يوحنّا في خدمته الراعويّة: "يا أولادي الصغار، أثبتوا الآن فيه... يا أولادي الصغار، لا يضلّكم أحد" (1 يو 2: 1، 12، 28؛ 3: 7، 18؛ 4: 4؛ 5: 21، تتكرّر لفظة "أولادي الصغار" سبع مرّات في الرسالة).
ثمّ يختم المؤلّف بقوله: "يجب على سلطة الخدمة أن تقترن بوداعة الخدمة. السلطة الضروريّة في الكنيسة يجب أن تظهر بروح محبّة الكنيسة الأمّ. ومريم صورة الكنيسة الأمّ، يمكنها أن تعلّم خدّام الكنيسة، والسلطات في الكنيسة، وجميع المؤمنين، أنّ من يعي الإرشاد الروحي كما تعيه الأمّ وعيًا شديدًا وبدون ميوعة، يستطيع وحده التعبير حقيقة عن محبّة الآب الذي يلد إلى الإيمان، ويغذّي، ويعزّي، ويشفى بكلمته وعلامات حضوره".