3- أعياد مريم العذراء
تكرّم الكنيسة مريم العذراء بنوع خاصّ في الاحتفال بأعيادها. وما تلك الأعياد إلاّ مناسبات تتّخذها الكنيسة للتعبير عن فرحها بالخلاص الذي حصلت عليه بتجسّد ابن الله في أحشاء مريم العذراء. وتتنوّع الأعياد المريميّة: فمنها تذكارات لأحداث تاريخيّة ورد ذكرها في الإنجيل المقدّس، ومنها تأمّلات حول أحداث مستقاة من التقليد الشفويّ أو من الأناجيل المنحولة. ومعظم هذه الأعياد يرافق مراحل حياة العذراء:
في الحبل بها (9 كانون الأوّل)
مولدها (8 أيلول)
دخولها الى الهيكل (21 تشرين الثاني)
بشارة الملاك جبرائيل لها (25 آذار)
زيارتها لأليصابات (يوم الجمعة من أسبوع الفصح في الكنيسة الملكيّة الكاثوليكيّة)
ميلادها المسيح (25 كانون الأوّل)
تهنئتها بهذا الميلاد والاحتفال بأمومتها الإلهيّة (26 كانون الأول)
تقدمتها ابنها الى الهيكل (2 شباط)
رقادها (15 آب)
وتضيف الكنيسة الى هذه الأعياد المرتبطة بمراحل حياتها أعيادًا أخرى أُدخلت بمناسبة تدشين كنيسة أو تكريس إيقونة للعذراء أو وجود ذخيرة من ثيابهما، وفيها تطلب شفاعتها وحمايتها. من هذه الأعياد:
عيد وضع ثوبها (2 تمّوز)
عيد وضع زنّارها (31 آب)
عيد الأكاثستون أو المدايح (في السبت الخامس من الصوم)
عيد سيّدة الينبوع الحامل الحياة (يوم الجمعة من أسبوع الفصح في الكنيسة الأرثوذكسيّة)
عيد سيّدة الحماية (1 تشرين الأوّل في الكنيسة الملكيّة الكاثوليكيّة)
عيد إكرام إيقونتها في مياسينا (1 أيلول).
في صلوات هذه الأعياد، تحرص الكنيسة على أن تقرن دومًا ذكر مريم العذراء بذكر ابنها الإلهي. ولذا نرى تقليد الكنيسة الشرقي لا يعتبر العذراء مريم أبدًا موضوعًا مستقلاً وقائمًا بحدّ ذاته أو موضوعًا. مدًا، بل يراها دائمًا من خلال دورها في التاريخ وفي تدبير الله العامّ للخلاص. ومن زاوية ديناميّة هذا الدور، ينظر الى الله من خلالها أو ينظر اليها كشفّافة لله، مع كل ما يحتويه الشفوف والصفاء من عمل حيّ وحركة: قبول كامل من جهة وعطاء مطلق من جهة أخرى. صحيح أنّ تقليد آباء الكنيسة هو برمّته مدائح للعذراء، ولكنّه، في الوقت نفسه، لم يحسبها في يوم من الأيّام موضوع بحث نظري خاصّ يُدرَس في ذاته، أو مسألة عقائديّة مستقلّة. فالآباء تكلّموا عن مريم في سياق "المناسبات"، فقط إذا جاز القول، وليست امتيازات والدة الإله في نظرهم منّات ممنوحة لها على وجه التخصيص الشخصيّ أو بصورة كيفيّة، ولكنّها ترتبط جميعًا برسالتها داخل المخطّط الإلهي العامّ. وقد قال القدّيس يوحنّا الدمشقي مخاطبًا العذراء: "ستخدمين خلاص كلّ الناس لكي يتمّ بواسطتك قصد الله القديم".
لذلك تتّسم معظم صلوات أعياد مريم العذراء بأنّها لا تتوجّه مباشرة الى العذراء بقدر ما تدعو الى الفرح والى تسبيح الله للعمل الذي حقّقه الله فيها، هذا العمل الذي يقودنا دومًا الى ابنها المسيح مخلّص العالم. وتتّسم أيضًا هذه الصلوات بأنّ موضوعها ومضمونها الأساسي هما الإشادة بالعظائم الثلاثة التي صنعها الله في مريم العذراء، والتي توسّعنا فيها في الفصل الثاني: مريم هي "والدة الإله" لأنّها ولدت المسيح ابن الله، مريم هي دائمة البتوليّة، مريم هي كلّية القداسة. سنعطي بعض الأمثلة عن صلوات مستقاة من خدمة الأعياد المريميّة في الطقس البيزنطي، وفيها تظهر بوضوح هاتان السمتان.
أ) عيد حبل القدّيسة حنّة بمريم العذراء (9 كانون الأوّل)
"اليوم قيود العقم تنحلّ، لأنّ الله يستجيب يواكيم وحنّة، فيعدهما وعدًا جليًّا أن يلدا على غير أمل فتاة الله، التي ولد منها غير المحدود نفسه لمّا صار إنسانًا، آمرًا الملاك أن يهتف اليها: السلام لك يا ممتلئة نعمة. الربّ معك" (الطروبارية).
"اليوم تعيّد المسكونة لحبل حنّة الذي تمّ بقدرة الله، فإنّها ولدت التي ولدت الكلمة ولادة تفوق الوصف" (القنداق).
نلاحظ أنّ الكنيسة، من خلال الاحتفال بالحبل بمريم العذراء، تدعونا الى النظر الى "غير المحدود" الذي سيولد منها، هي "الممتلئة نعمة"، الى "الكلمة" الذي ستلده بشكل بتولي "ولادة تفوق الوصف".
ب) عيد ميلاد مريم العذراء (8 أيلول)
"ميلادك يا والدة الإله بشّر بالفرح المسكونة كلّها، لأنّه منك أشرق شمس العدل المسيح إلهنا. فحلّ اللعنة، ووهب البركة، وأبطل الموت، ومنحنا الحياة الأبديّة" (الطروبارية).
"اليوم حنّة العاقر تلد فتاة الله، التي سبق انتخابها من بين جميع الأجيال مسكنًا للخالق المسيح الإله ملك الكلّ، إتمامًا لتدبيره الإلهي الذي به أُعيدت جبلتنا نحن الأرضيّين وانتقلنا من الفساد الى الحياة الأبديّة" (صلاة المساء).
من ميلاد العذراء تنقلنا الكنيسة بشكل طبيعي للتأمّل في عمل المسيح الخلاصي: فقد حلّ اللعنة وأبطل فساد الموت ومنحنا الحياة الأبدية.
ج) عيد البشارة (25 آذار)
"اليوم بدء خلاصنا، وظهور السرّ الذي منذ الأزل. فإنّ ابن الله يصير ابن البتول، وجبرائيل بالنعمة يبشّر. فلنهتف معه نحو والدة الإله: السلام لك يا ممتلئة نعمة، الرب معك" (الطروبارية).
ابن الله يصير ابن البتول الممتلئة نعمة. هذا هو بدء خلاص البشريّة كلّها. وفي قطع مزامير الغروب، نستمع الى حوار بين جبرائيل والعذراء، يتضح فيه دور العذراء في القصد الإلهي الذي منذ الأزل:
"إنّ جبرائيل قد وافى اليك أيّتها الفتاة، فكشف لك القصد الذي قبل الدهور، وسلّم لك بلهجة مطربة قائلة: افرحي يا أرضًا غير مزروعة، افرحي يا علّيقى غير محترقة، افرحي يا عمقًا لا تدركه الأبصار، افرحي يا جسرًا ناقلاً الى السماوات، افرحي يا جرّة المنّ الإلهيّة، افرحي يا ناقضة العنة، افرحي يا معيدة دعوة آدم، الرب معك".
"إنّ الفتاة العذراء كلّمت زعيم الأجناد قائلة: إنّك قد استعلنت لي كإنسان. فما بالك إذن تنطق بكلمات تفوق الإنسان قائلاً لي إنّ الربّ يكون معي ويسكن في مستودعي؟ فأبِنْ لي كيف أصير محلاً رهيبًا ومقام تقديس للراكب على الشيروبيم، ولا تخدعني بالباطل، لأنّي لا أعرف لذّة ولا زواجًا. فكيف إذن أَلد ابنًا؟"
"أجابها الذي لا جسد له قائلاً: حيثما يشاء الإله يغلب نظام الطبيعة، ويجري ما يفوق الإنسان. فكوني على يقين من صدق مقالتي، يا فائقة القداسة والنزاهة. فأردفت قائلة: ليكن لي بحسب قولك أن ألد الذي لا جسد له، آخذًا منّي جسدًا، لكي يرفع باتّحاده الإنسان الى الرتبة الأولى، بما أنّه العزيز وحده" (صلاة المساء).
د- عيد ميلاد السيّد المسيح (25 كانون الأوّل)
"الآب قد ارتضى والابن صار جسدًا، والبتول ولدت إلهًا متأنّسًا، والكوكب يبشّر، والمجوس يسجدون، والرعاة يسهرون، والخليقة تبتهج".
"يا والدة الإله العذراء، لقد ولدت المخلّص، ونقضت لعنة حوّاء القديمة، لأنّك قد صرت أمًّا بمسرّة الآب، حاملة في أحضانك كلمة الله المتجسّد. فالسرّ لا يحتمل فحصاً، بل جميعنا نمجّده بالإيمان فقط، صارخين معك وقائلين: أيّها الربّ الذي لا يدرك المجد لك".
"هلمّوا أيّها الشعوب لنمدح والدة المخلّص، الّتي لبثت عذراء بعد الولادة: افرحي أيّتها المدينة الناطقة للإله الملك، التي لمّا سكن فيها المخلّص صنع لنا خلاصاً. فمع جبرائيل نمدحك، ومع الرعاة نمجّدك هاتفين: يا والدة الإله تضرّعي إلى المتجسّد منك لكي يخلّصنا" (قطع الباكرية في سحر العيد).
تنطوي هذه الصلوات على تعليم لاهوتي بشأن مريم التي ولدت إلهًا متأنّسًا وبقيت بتولاً، وترنّم لها لأنّها ولدت المخلّص، وتطلب منها أن تتضرّع إليه لكي يخلّصنا. فدور مريم في القصد الإلهي هو أن تعطينا ابن الله المخلّص.