4- مريم العذراء الفائقة القداسة
الكنيسة بأجمعها في الشرق والغرب تعلن قداسة مريم العذراء انطلاقًا من كونها "ممتلئة نعمة" ووالدة المسيح ابن الله. وتعلن أنّها "منزّهة عن كل عيب" وأنّها لم تقترف خطيئة. ويؤكّد التراث الكنسي في الشرق كما في الغرب أنّ الله قد أنعم عليها منذ الحبل بها في أحشاء أمّها القدّيسة حنّة بنعمة خاصّة قدّست طبيعتها منذ تكوينها. وللتعبير عن تلك القداسة أعلنت الكنيسة الكاثوليكيّة إيمانها "بالحبل بلا دنس"، أي بحبل القدّيسة حنّة بمريم العذراء دون وصمة الخطيئة الأصليّة، في حين ولا تزال الكنائس الأرثوذكسية ترفض تلك العقيدة في التعبير اللاهوتي الذي وردت فيه، على الرغم من اعترافها بما ورد في الكتاب المقدّس وفي تعاليم الآباء عن قداسة مريم العذراء التي تفوق بطهرها جميع الملائكة والبشر، والتي هي، في نظرها، "أكرم من الشيروبيم وأمجد بلا قياس من السيرافيم". سنتوسّع أوّلاً في التراث المشترك حول قداسة مريم العذراء، ثمّ نعالج الخلاف حول موضوع عقيدة "الحبل بلا دنس".
أ) "الممتلئة نعمة" في الكتاب المقدّس
تستند الكنيسة في إعلانها قداسة مريم العذراء إلى تحيّة الملاك جبرائيل: "السلام لك يا ممتلئة نعمة الرب معك" (لو 1: 28). ذلك ما لفت إليه أوريجانيس فصرّح أنّ هذه التحيّة الجديدة فريدة لا مثيل لها البتة في تضاعيف الأسفار المقدّسة، إذ لم توجَّه قطّ إلى امرئ، إنّما خُصَّت بها مريم وحدها دون سواها. وتعني لفظة "ممتلئة نعمة" () أنّ مريم كاملة البرارة وكاملة القداسة. والصيغة اليونانية تدلّ على الديمومة والثبات في ملء النعمة بمعزل عن الزمان وحدوده. ولو شاء الإنجيل المقدّس الدلالة على أنّ العذراء مريم صارت قدّيسة عندما حيّاها الملاك، ولم تكن قدّيسة من قبل، لا ستعمل صيغة أي المنعم عليها الآن. ولو أراد الدلالة على أنّها تبرّرت في وقت ما من أيّامها الماضية لاستعمل صيغة أي التي أنعم عليها سابقًا. أمّا اللفظة المستعملة فتدلّ على أنّ العذراء الطاهرة كانت، قبل تحيّة الملاك والبشارة، كاملة البرارة والقداسة: إنّها لم تصر قدّيسة آنذاّك بل كانت قدّيسة وكاملة القداسة. هذه الصيغة هي صيغة "الصفة المشبّهة" التي تدلّ على ثبوت الصفة لصاحبها بمعزل عن الزمان والمكان.
ب) قداسة مريم العذراء في كتابات الآباء
في القرون الخمسة الأولى
وهذا ما رآه آباء الكنيسة منذ القرون الأولى. وإليك بعض أقوالهم:
"إنّ الربّ بغير فساد، من حيث هو إنسان. لأنّه من شجرة كير فاسدة، أي من العذراء والروح القدس".
"إنّ المسيح الطاهر قد اقتنصته عذراء طاهرة".
"الطاهر يخرج بوجه طاهر من الأحشاء الطاهرة التي أوجدها هو نفسه طاهرة".
ويرى إيريناوس أنّ مريم وابنها هما حوّاء وآدم الجديدان اللذان يحملان نبل الجنس البشري. إنّهما الأوّلان، وإن ظهرا متأخّرين. فيسوع أتمّ آدم، ومريم أتمّت حوّاء. وكلاهما رأس البشرية الذي آتاها العودة إلى عدم فسادها الأوّل، وعمل الخلاص واحد اشترك فيه الابن والأُمّ معاً. و"المسيح أخذ من التي هي من آدم (أي من مريم) صورة الخليقة الأولى"، أي صورة آدم قبل الخطيئة. ومعلوم أنّ العذراء مريم لا تستطيع أن تعطيه تلك الصورة ما لم تكن هي نفسها حاصلة عليها.
ويشيد القدّيس أفرام السرياني بقداسة مريم العذراء، فهي التابوت المقدّس، والمرأة التي سحقت رأس إبليس، والطاهرة وحدها نفسًا وجسدًا، والكاملة القداسة، وإذ يقابل بينها وبين حوّاء يقول: "كلتاهما بريئتان، وكلتاهما قد صنعتا متشابهتين من كل وجه، ولكنّ إحداهما صارت من بعد سبب موتنا والأخرى سبب حياتنا". ويقول في موضع آخر: "في الحقيقة، أنت، يا ربّ، وأمّك جميلان وحدكما من كل وجه وعلى كل صعيد، إذ ليس فيك، يا ربّ، ولا وصمة وليس في أمّك دنس ما البتة".
وبعد "مجمع أفسس الذي أعلن مريم "والدة الإله"، راح الآباء يتبسّطون في هذه الكرامة وما تقتضيه من إنعامات خاصّة، ويفيضون في وصف مريم وينعتونها بكل ما من شأنه أن يؤيّد قداستها الفائقة.
يقول بروكلوس بطريرك القسطنطينية (+ 446): "مريم هي مقدس الوصمة من الخطيئة، وهيكل الله الأقدس، والقدّيسة جسدًا ونفسًا، والكرة السماويّة للخليقة الجديدة التي تحمل شمس العدل المشّع على الدوام"، "وقد صنعت من تربة طاهرة وكانت معدّة لأن تصير هيكلاً لله".
ونجد عند ثيودوتس أسقف أنكره (303) طائفة من التشابيه والأوصاف تدّل في جلاء على عصمة مريم من الخطيئة، منها قوله: "بدلاً من العذراء حوّاء وسيطة الموت، أقيمت عذراء ممتلئة نعمة لتعطينا الحياة، عذراء صنعت بطبيعة المرأة ولكن بدون خبث المرأة، عذراء بريئة، بدون وصمة، كليّة الطهر كاملة، منزّهة عن كلّ لوثة، قدّيسة نفسًا وجسدًا، نبتت كالزنبقة وسط الشوك، عذراء ملتحفة بالنعمة الإلهيّة كرداء: مفعمة النفس حكمةً إلهيّة، عروس الله بالقلب". وهي "المغمورة بالنور". بها تلاشت كآبة حوّاء، وبها حوّاء افتديت إذ "من القدّيسة ولد ابن قدّوس، والكاملة ولدت الكامل، والتي تفوق الوصف ولد منها الذي يفوق الوصف. والعليّة ولد منها العليّ".
وللكاهن الأورشليمي هيزيكيوس تصريحات لا تقلّ بيانًا وقوّة، منها قوله: "إنّ في مريم أكمل جميع النساء، ولؤلؤة العذارى، والزينة السنيّة لطبيعتنا، ومجد التربة التي منها جبلنا. أنقذت حوّاء من خزيها وآدم من الوعيد الرازح تحته، سحقت شوكة الثعبان الجهنمي. إنّ دخان الشهوة لم يبلغ إليها ودودة الأهواء لم تنفذ قطّ إليها". وفي موضع آخر يقول: "هي الفرع المنزّه طبعًا من كل شائبة، وجذع يسّى المخضوضر على الدوام، وبستان الآب، وخميلة أطياب الروح بأجمعها، والسفينة التي كان الله مهندسها وربّانها وقائدها، وعدوّة الشيطان التي انتزعت منه ملكوته ودحرته في وهاد الدمار، وهي أجمل النساء طهرًا كما أنّ ابنها أجمل بني البشر".
وقد جاء في الرسالة المسندة إلى كهنة وشمامسة أخائية، في استشهاد القدّيس أندراوس، الشهادة القيّمة التالية: "بما أنّ الإنسان الأوّل الذي أدخل الموت إلى العالم بالمعصية كان قد جبل من تربة منزّهة عن كلّ لطخة، كان لا بدّ لابن الله المتأنّس أن يولد من عذراء بريئة من كلّ دنس ولطخة، لكي يجدّد الحياة الخالدةّ للبشر الذين خسروها بآدم".
من القرن السادس إلى القرن التاسع
في هذه الفترة أُنشئت أهمّ الأعياد المريميّة التي أتاحت للشعراء والمعلّمين ميدانًا فسيحًا للإفاضة في مدح العذراء وإشادة بقداستها.
فرومانوس المنشد، شاعر العذراء الملهم، يقول عن مريم إنّها "بريئة بن كل دنس"، "زهرة عدم الفساد"، "بهجة النساء لأنّها وحدها ممتلئة بالنعمة، كاملة الجمال والطهر والقداسة"
وصفرونيوس بطريرك أورشليم (+ 638) يتغنّى بالفادي الذي "ولج أحشاء مريم المتألقة طهرًا، المعصومة من كل لوثة في النفس والجسد والعقل، البريئة من كل دنس". ولئن كان "القدّيسون الّذين ظهروا قبلها كثيرين، فما من أحد فيهم كان ممتلئًا نعمة ولا أحد كامل القداسة مثلها، ولا أحد تطهّر من قبل مثلها. ويقوم هذا الامتياز بأنّ مريم تطهّرت مقدَّمًا، وأبناء آدم الآخرين تطهّروا عاديًّا، والفرق بين تطهير هؤلاء وتلك هو أنّهم هم تطهّروا بعد الوصمة، وأمّا هي فقبل الوصمة".
ويوالي القدّيس أندراوس الكريتي (+ 740) العزف على الوتر عينه، فيؤكّد قداسة مريم العذراء منذ تكوينها في أحشاء أمّها: "إنّ مريم هي ابنة الله، لا لأنّها ابنة الموعد وثمرة قدرة الله تُخصب عقم الشيخوخة وحسب، بل أيضاً وخصوصاً لأنّها الخزف يجبله الفنّان الإلهي جبلة إلهيّة، والخميرة المقدّسة سرت فيها الحياة الإلهيّة"، "وهي باكورة طبيعتنا، بها تستعيد البشريّة جبلتها الأولى وامتيازاتها القديمة. وبها يبدأ تجديد طبيعتنا، والعالم العتيق يتقبّل باكورة الخليقة الجّدَيدة"، لأنّ "جسدها تربة اعتجنها الله بنفسه، ولأنّها الصورة المماثلة الجمال الأوّل".
والقدّيس جرمانوس بطريرك القسطنطينية (+ 733) يهتف بلسان يواكيم وحنّة في عيد التقدمة: "تقبّل أيّها السيّد تلك التي أعطيتناها... تقبّل تلك التي اصطفيتها واخترتها من قبل وقدّستها، تلك التي انتزعتها كالزنبقة بين الشوك من حضيض حقارتنا". ويوم قُدّمت إلى الهيكل "قُدّمت إلى الرب كهبة مقدّسة متألّقة بالجمال الإلهي"، لا لكي يقدّسها الهيكل بل لكي تقدّس هي قدس الأقداس.
والقدّيس يوحنا الدمشقي (+ 749) يعلن أنّ مريم قدّيسة طاهرة البشارة "إذ إنّها حرصت على نقاوة النفس والجسد كما يليق بمن كانت معدّة لتتقبّل الله في أحشائها." واعتصامها بالقداسة مكنّها أن تصير هيكلاً مقدّسًا رائعًا جديرًا بالله العليّ". ومريم طاهرة منذ الحبل بها: "يا لغبطة يواكيم الذي ألقى زرعًا طاهرًا! ويا لعظمة حنّة التي نمت في أحشائها شيئًا فشيئًا ابنة كاملة القداسة". ويؤكّد أنّ "سهام العدوّ الناريّة لم تقو على النفاذ إليها"، "ولا الشهوة وجدت إليها سبيلاً".
ويوحنّا أسقف أوبي (+ 750) يعلن: "إنّ الخالق بنفسه اصطنع من التراب القديم سماء جديدة، وعرشًا يتحدّى ألسنة اللّهب... فتهلّلي أيّتها الأرض لأنّ عدوّ طبيعتنا قد قُهر... وقصر الملك السماوي قد شُيّد بدون مساعدة البشر".
ويقول القدّيس ثاوذورس الأستودي (+ 826): "إنّ مريم أرض لم تنبت فيها البتّة أشواك الخطيئة... أرض لم تطلق عليها اللعنة البتّة على مثال الأرض الأولى الخصيبة بالشوك... والعود الغير الفاسد الذي لم يجد إليه دود الفساد منفذًا".
وكذلك يقول القدّيس أوغسطينوس: "إكرامًا للربّ، أرفض أيّ تساؤل حول إمكان وقوع القدّيسة مريم العذراء في الخطيئة".
ويقول أيضاً يعقوب السروجي (+ 521): "لم تتدنّس مريم قطّ بشهوات رديئة، بل سلكت منذ طفولتها طريق الحقّ باستقامة، بغير خطأ أو تعثّر".
من هذه الأقوال كلّها نستنتج أنّ الآباء في معظمهم اعتقدوا بأنّ مريم لم تقترف أيّ إثم ولم تقع في الخطيئة، لأنّ نعمة الله ملأتها منذ تكوينها.
واستنادا إلى هذا التراث الواسع حدّدت الكنيسة الكاثوليكية عقيدة "الحبل بلا دنس". ماذا تعني هذه العقيدة؟ وما هو موقف الكنائس الأرثوذكسية منها؟