3- مريم العذراء الدائمة البتوليّة
مريم العذراء هي "أمّ وبتول معًا". وهي، بحسب إيماننا المسيحي، "الدائمة البتوليّة". ويؤكّد اللاهوت والليترجيّا أنّ مريم هي بتول قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة. أي إنّها حبلت بيسوع المسيح دون مباشرة رجل: تلك هي بتوليّة مريم قبل ولادتها ابنها يسوع؛ ثمّ إنّها ولدته وبقيت بتولاً: تلك هي البتولية في الولادة؛ وبعد أن ولدته لم يكن لها علاقة مع أيّ رجل: تلك هي البتوليّة بعد الولادة. إنّ ما تكرز به المسيحيّة قد يبّدو مناقضاً للعقل. ولكن ليس من أمر يستحيل على الله. فالذي في البدء وضع نواميس الحبل والولادة لدى البشر يغيّرها الآن في الحبل به وولادته، جامعًا في أمّه أروع مفخرتين تعتزّ بهما كلّ النساء: البتوليّة والأمومة.
أ) بتوليّة مريم العذراء قبل الولادة
كان حبل مريم بالسيّد المسيح حبلاً بتوليًّا أي دون مباشرة رجل. وفي ذلك تناغم مع إيماننا المسيحي الذي يشهد أنّ الذي حبلت به مريم هو ابن الله، كما رأينا في مختلف النصوص الإنجيليّة في الفصل الأوّل. فهناك انسجام بين بتوليّة مريم وعقيدة التجسّد. ثمّ إنّ بتوليّة ليست بتوليّة في جسدها وحسب، بل هي اتّحاد كلّ كيانها بالله.
الانسجام بين بتوليّة مريم والتجسّد
إنّ الله إلهنا حقيقة رائعة، وأعماله عظمة وجلال. وهذا ما تجلّى في ما صنعه الله في مريم. من عظائم. ففيها يسمو الله المنطق البشري ومقاييسه ويتخطّى قوانين الطبيعة البشريّة وحدودها. فإنّ من وضع النواميس لتكوين الطبيعة البشريّة وتطويرها قد وضع لذاته نواميس جديدة أروع من الأولى. من العبث محاولة طرح الأسئلة حول هذه النواميس الجديدة في حين لا تزال النواميس الأولى جيّدة وصالحة. إنّ محاولة كهذه لا ينتج منها سوى التخبّط في لجج الضباب، وهي الى ذلك امتهان لقدرة الله الذي خلق من العدم هذا الكون الفائق الجمال. وعلى كل من الأسئلة التالية: لماذا؟ من أين؟ كيف؟ ليس سوى جواب واحد: هذا هو عمل الله الذي تجلّى لنا في شخص يسوع المسيح الذي نؤمن أنّه كلمة الله وابن الله المتجسّد.
كلّ ما يصنعه الله هو آية في الروعة والكمال. فلقد حدّد في ناموس الخليقة الأوّل أنْ ليس من امرأة يمكن أن تجمع في ذاتها بين البتوليّة والأمومة. ولكنّه في ناموس الخليقة الجديد صنع مريم أمّه وحباها سمات إلهيّة أمكنتها من أن تجمع بين كلتا المفخرتين. في الناموس الأول حدّد أنّه لا يمكن أيّ كائن بشري أن يولد دون علاقة جنسيّة بين رجل وامرأة، وفي الناموس الثاني جعل الحبل به في أحشاء فتاة من بني جنسنا دون مباشرة رجل. هو مجده الإلهي قد سكبه على أمّه ليملأ به بواسطتها البشريّة كلها.
إنّ موضوع الحبل بربّنا يسوع المسيح البتولي في وأحشاء مريم العذراء هو لديانتنا المسيحية هامّ جدًّا لم بحيث وقفت الكنيسة ذاتها وجنّدت كلّ الفلسفات البشريّة والشعر والفنّ لإبراز مدلولاته الرائعة، ولم تكلّ في العمل على تفسير أبعاده العميقة. لقد أنشدت لهذه الحقيقة الرائعة مؤكّدة أنّ هذا الحبل البتولي ليس اختراعًا ولا وسيلة للحطّ من كرامة النشاط الجنسي البشري. فالمسيحيّة تعتبر النشاط الجنسي عملاً مقدّسًا يوحي به الإنسان بذاته، وسبيلاً إلهيًّا به يتمّ التعرّف الى شخص ويتكوّن كائن بشري جديد. ولكن كان لا بد أن يتمّ الحبل بالمسيح بطريقة خاصّة لتظهر بجلاء كلّ معاني التجسّد.
فإنّه، مذ قُيّض لطبيعة المسيح البشريّة أن تكون مصدرًا ومنشأ لإحياء البشريّة على صورة جديدة سماويّة، كان لا بدّ لها أن تتكوّن بشكل جديد ويكون لها مصدر سماوي.
وهكذا كان لا بدّ للمسيح أن يأتي الى هذا العالم بطبيعة بشريّة لم يستمدّها من أيّ مصدر أرضي بل من مصدر إلهي يفوق طبيعة البشر، لأنّها تحمل في ذاتها معاني وأبعادًا مغايرة لما تتضمّنه أيّ ولادة بشريّة أخرى. فالمعنى الأوّل لعقيدة الحبل البتولي بيسوع هو إذًا أنّ هناك انقطاعًا مع تاريخ الإنسان الخاطىء وإعلانًا أنّ خلاص الإنسان وتجديده يتحقّقان بتدخّل مباشر من قبل الله. كان لا بدّ للمسيح أن يمنح العالم شيئاً جديدًا برمّته، أكثر إبداعًا وأكثر روعة من أيّ شيء آخر في تاريخ البشريّة كلّها، أعني الفداء والتألّه. ففيه قُيّض للبشرية كلّها أن تُخلَق من جديد وتتألّه. وهذا ما يعنيه بولس الرسول في المقارنة التي يقيمها بين الإنسان الأوّل الذي تكوّن من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني الذي أتى من السماء. "فالإنسان الأوّل، آدم، حسب قوله، لم يكن إلاّ نفسًا حيّة، أمّا الإنسان الثاني، يسوع المسيح، فهو روح يحيي" (1 كور 15: 45- 48). ينتج من ذلك أنّ كلّ بشريّة المسيح كان لا بدّ لها أن تكون خليقة جديدة، وأن تكون برمّتها عمل الله دون سواه. وعليه ينطبق ما يقوله يوحنّا الإنجيلي عن المدعوّين لميراث الملكوت: "هو الذي لم يولد من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله" (يو 1: 13). إنّ المسيحيّة، بتأكيدها حبل مريم البتولي، تهدف أوّلاً إلى إعلان إيمانها بأنّ يسوع المسيح هو أوّلاً وآخرًا "ابن الله". هذا ما يعنيه القول الأوّل من قانون الإيمان: "وتجسّد من الروح القدس".
أمّا القول الثاني "ومن مريم العذراء" فيؤكّد الدور الذي تحتلّه البشريّة في سرّ التجسّد. فذكر بتوليّة مريم في قانون الإيمان هو للإشارة الي أنّ الدور الذي أدّته البشريّة في التجسّد هو قبول عطيّة الله وليس أكثر. فباسّم البشريّة قبلته مريم دعوة الله وقالت: "ها أنا ذا أمة الربّ، فليكن لي بحسب قولك" (لوقا 1: 38). فقانون الإيمان يؤكّد إذن أمرين: أوّلاً إنّ حياة المسيح على الأرض لم تستمدّ معينها إلاّ من الله وحده، وثانيًا إنّ مريم أسهمت في هذا الحدث بقبولها عطيّة الله.
بتوليّة مريم اتّحاد كل كيانها بالله
للتعبير عن بتوليّة مريم نستعمل ألفاظاً عدّة. فندعوها "التي لم تختبر زواجًا"، و"التي لم تختبر رجلاً"، والتي "لا عروس لها". ليس القصد من تلك التعابير الانتقاص من قيمة الزواج ولا الإشارة الى أنّ الزواج ليس على هذا القدر من النبل والقداسة لتقبل به مريم، بل تهدف الى فتح الآفاق واسعة أمام عقلنا ومخيّلتنا للتأمّل، في رؤيا بهاء وتحرّر، في تلك التي اختبرت أعمق علاقة شخصيّة مع الله يمكن أن يختبرها إنسان، بحيث لم يكن لها حاجة لعلاقة اكتمال جسدي مع أيّ كائن بشري.
لقد امتلك الله مريم وملأها أخلاقيًّا ونفسيًّا وطبيعيًّا بملء ما يمكن امرأة أن تتوق إليه فجعلها امرأة كاملة. إنّ مريم باستسلامها لعمل الله الخلاّق فيها اختبرت ملء الاكتفاء وملء النشوة التي يمكن كائنًا بشريًّا البلوغ اليها على هذه الأرض، بحيث لم يكن لأيّ متعة جسديّة، ولا لأيّ لذّة ناجمة من أي عمل آخر، إضافة شيء على هذا الملء.
إنّ النشوة التي تنتج من متعة الجسد في الكائنات البشريّة لا تدوم إلاّ لحظة عابرة فتذوب وتذوي سريعًا. لذلك لا بدّ من تكرارها وإذكاء شعلتها ليتاح لعلاقة الحبّ أن تستمرّ بواسطتها حيّة بين الزوجين. أمّا في مريم فنشوة الحبّ كانت نشوة كاملة وثابتة، لأنّ استسلامها كان استسلامًا مطلقًا لله الذي لا حدّ له، ومعرفتها كانت "معرفة" كاملة لله الذي لا نهاية له.
إنّ استسلام الذات ووحي الذات لشخص آخر، وقبول الاثنين المتبادل في عمل الولادة، هو السبيل الأعمق والأكمل لمعرفة الشخص. لذلك يطلق الكتاب المقدّس والتراث المسيحي لفظة "معرفة" على هذا الاستسلام الشخصي وعلى هذا الوحي المتبادل الذي يوحّد الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل في سبيل الإنجاب. أن "يعرف الرجل امرأته" وأن "تعرف المرأة رجلها"، هاتان العبارتان يلجأ اليهما الكتاب المقدّس للدلالة على الاتّحاد الكامل بين الرجل والمرأة في الجسد والروح.
في الكائنات البشريّة لا يقتصر اتّحاد الرجل والمرأة في سبيل الإنجاب على اتّحاد الأجساد، بل يشمل الجسد والنفس والروح والعقل والأحاسيس والمشاعر كلّها. فالشخص الذي يخرج من ذاته ليتّحد بالآخر يصير حاضرًا في الآخر في كل كيانه: في جسده ونفسه وروحه. هكذا يوحي شخص بذاته لشخص آخر ويستسلم له. ووحي الذات لآخر والاستسلام له يصلان الى أعماق الوعي البشري، فيوقظان كلّ ما في الكيان من قوى طبيعيّة ويحوّلان الذات كلّها. وعلى هذا النحو، إذ يستسلم الزوجان أحدهما للآخر، يمتلىء كلّ منهما من صفاء إشعاع الآخر، فيتحوّلان ويصيران واحدًا. تلك هي "معرفة" الشخص، وتلك المعرفة أعمق وأكمل من أيّ معرفة يمكن أن تأتي عن طريق العلم أو الفلسفة.
لمّا استسلمت مريم كليًّا لله، ملأ الله كيانها بوحي ذاته، فعرفت مريم الله معرفة كاملة في نفسها وروحها، وحتى في جسدها وكلّ مشاعرها. ودخلت، في كلّ ما فيها من توق الى الاكتمال، في غمرة الحبّ الإلهي الذي لا ينضب. فصار لها هذا الحبّ ينبوع فرح لا يجفّ ومصدر نشوة ترتقي بها "من مجد الى مجد"، بحيث لم يكن لأيّ لذّة أخرى أن تضيف شيئًا إلى هذا الفرح. إنّ البتولية في مريم تعني أنّ مريم، بفضل وحي الله لها ومعرفتها لله، بلغت غبطة الملكوت التي يشير اليها السيّد المسيح في وصفه القيامة العامة حيث "لا يزوّجون ولا يتزوّجون بل يكونون كملائكة الله في السماء" (متّى 22: 30).
البتوليّة حرّية
في نظر المسيحيّين تنطوي البتوليّة على أكثر من مجرّد العفّة الجسديّة. فالرهبان والراهبات يرون فيها حرّية شخصيّة واتّحادًا صوفيًّا بالله وموقفَ محبّة مسرة على الدوام لتتميم إرادته الإلهية. ليست البتوليّة اختيار من خاب أمله في الحياة، بل هي فضيلة الذين بملء إرادتهم يحتفظون بتيّار حبّهم كاملاً لمن سيبادلهم كامل الحبّ. ولا بدّ من التذكير دومًا بأنّ الإشادة بالبتوليّة لا تحمل في ذاتها أيّ انتقاص لقيم الجسد ولا لقيم العطف والحنان التي ينطوي عليها قلب الإنسان. بل إنّ تلك القيم تتضاعف في البتوليّة الحقّة التي تشمل الإنسان في كلّ ما فيه من جسد ونفس وروح.
فالبتوليّة هي إذن كمال الحرّية، إذ بها تتحرّر كل قوى الكائن البشري اليافعة وتتوحّد وتجعل من يختارها منفتحًا على اكتمالها بلمسة المحبّ الكامل. وفي انتظار اكتمالها، تنمو في تألّق الجمال وتقوى في المجد. وتصل الى قمّة نشوتها في استسلامها لحبيبها والاتّحاد به حتى التماثل. في هذا المعنى تبدو البتوليّة أكثر من مجرّد عطيّة ملوكيّة. إنّها نبل وشهامة.
إنّ الله لا يفرض ذاته علينا، ولا يزيل حرّيتنا. فهو الذي يقدّم ذاته لنا، لا ليغتني بنا، بل ليغنينا بذاته ويتمّ فينا عمل تأليهنا. هكذا استسلمت مريم لله، لا ليغتني بها، بل لتغتني به وتفتح له السبيل لينزل الى خليقته، وتتيح له أن يظهر حبّه اللامتناهي للبشريّة والخليقة.