حضور الله في مريم العذراء
إنّ طبيعة المسيح البشريّة قد تكوّنت إذن في أحشاء مريم العذراء بقدرة الله الخلاّقة فالله وحده أعطى مريم أن تكون أمًّا، إذ خلق مباشرةً الحياة في أحشائها. من هذه الحقيقة ينتج أنّ هناك علاقة فريدة وألفة لا توصف بين أبوّة الله الخلاّقة وبتوليّة العذراء في الجسد. لذلك دعا التقليد الكنسي مريم العذراء "عروس الله". لا ريب أنّ هذه العبارة قد تبدو تجديفًا على اسم الله لمن لم يدخل بالإيمان في سر عمل الله على الأرض. لذلك يجب استعمالها بحذر وتحفّظ، مع التنبّه إلى أنّ هذه العبارة يجب ألاّ تؤخذ بمعناها الحرفي، بل جلّ قصدها التأكيد أنّ مريم قد حبلت بالمسيح بشكل بتولي، وأنّ ابنها بالجسد هو نفسه ابن الله الكائن منذ الأزل مع الآب والروح. فالسيّد المسيح بقي في أحشاء مريم إلهًا تامًّا، أحد الثالوث الأقدس، وإن اتّخذ طبيعة بشريّة تامّة. فمن الناحية البشريّة هو ابن العذراء وحدها، إذ استمدّ منها بقدرة الله كل ما جعله إنسانًا. ومن الناحية الإلهيّة هو ابن الآب الأزلي. وهكذا تحقّق في مريم العذراء هذا الالتئام العجيب: فالطفل الذي ولدته هو منها في طبيعته البشرية، ومن الآب وحده في طبيعته الإلهيّة. فالله هو أبوه في السماء، ومريم هي أمّه على الأرض.
الله حاضر إذًا في مريم العذارء بقدرته الخلاقة وبأبوّته الأزلية. وابن الله حاضر أيضًا في مريم لأنّها صارت له أمًّا. والأمومة هي حضور، أي علاقة بين شخصين. إنّها ينبوع منه تتفجّر حياة تبقى مماثلة للينبوع الذي صدرت منه، ومتّصلة به اتّصالاً وثيقًا. إنّ العلاقة التي تجمع بين الأمّ وابنها هي أعمق نوع من الحضور. وقد اكتسبت الأمومة في مريم حضورًا أكثر عمقًا وأكثر شموليّة. فالعلاقة فيها هي بين الخالق وخليقته، بحيث إنّ السماء، من خلال أمومة مريم، ارتبطت بالأرض ارتباطًا دائمًا، والأرض صارت سماء. الله اتّحد هو نفسه بخليقته، والخليقة تألّهت. ابن الله، الإله من الإله، صار واحدًا من بني البشر وأخًا لكلّ كائن بشري، وجعل كلّ أبناء البشر واحدًا معه، وإخوة وأخوات حقيقيين بعضهم لبعض. وليس أدلّ على ذلك ممّا قاله الشاعر الألماني "غوتيه" موجزًا تعليم الديانة المسيحيّة في مريم العذراء: "المرأة هي السبيل الى السماء". لا سبيل آخر أمام الله كي يتّحد بالبشريّة، وأمام البشر كي يرتفعوا الى الله.
ثمّ إنّ الأمومة لا تقتصر على أمور الحبل والولادة وعلى ما تتضمّنه من نشاطات طبيعيّة. فالطفل هو جزء من كيان أمّه، ليس فقط خلال فترة تكوين شخصيّته، بل حتّى بعد الموت. الطفل هو على الدوام جزء من أمّه. لذلك لا يمكننا التفكير بالمسيح الربّ دون مشاهدة أمّه واقفة الى جانبه. فالمسيح كان وسيبقى على الدوام ابن مريم، ومريم ستظلّ على الدوام أمّ المسيح. من هنا تتراءى لنا مريم دائمة الحضور الى جانب ابنهإ، كلمّا وضعنا ذواتنا في حضور ابنها ربّنا وإلهنا. وكلّما دفعتنا الحاجة الى وجه بشري ليتألّق به وجهنا المضطرب، ويتوطّد به قلبنا الجزع أمام الله، نجدها دومًا واقفة إلى جانبه تنير قصدنا وتثبّت عزائمنا. ولا عجب في ذلك، ما دامت هي تلك المرآة التي تعكس صورة ابنها علينا، والسبيل الذي يقودنا الى حضوره. من خلالها جاء الى العالم، ومن خلالها يرتقي العالم الى الله.
إنّه لمن المهمّ جدًّا أن نؤكّد أنّ مريم لا يمكن إدراكها إلاّ على ضوء المسيح. كما أنّه من الضلال النظر الى المسيح على ضوء مريم. فالمسيح هو اللؤلؤة (راجع متّى 13: 45 "يشبه ملكوت السماوات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلىء حسنة. فلمّا وجد لؤلؤة نفيسة، مضى وباع كلّ ما كان له واشتراها")، ومريم هي الصدفة التي أبرزت اللؤلؤة، كما نرنّم لها في قانون المدايح في الطقس البيزنطي: "السلام لك يا صدفة عجيبة جدًّا أبرزت اللؤلؤة الإلهيّة" (الأوذية الخامسة، 5). والقول "إنّ مريم هي سبيلنا الى الله" لا يعني مطلقًا أنّ المسيح بعيد عنّا، أو إنّ بيننا وبينه هوّة لا نستطيع العبور فوقها إلاّ بواسطة مريم. فالمسيح هو وحده عنصر خلاصنا. ولكن، بما أنّ مريم هي أم المسيح، والكائن البشري الأول الذي قبل عطيّة الله قبولاً أسمى، نعتبر نحن البشر أنّ جوابها للملاك "ليكن لي بحسب قولك" ينطوي على إيمان كلّ منا. لذلك، معها وتحت كنفها، ننفتح على عطيّة الله ونلتقي المسيح الذي هو خلاصنا الأوحد.
فإنّ الحقيقة الخلاصيّة، بالنسبة الينا نحن المسيحيّين، ليست صيغة فكريّة نعتنقها، بل هي شخص نتّحد به، شخص يسوع المسيح الإلهي، الذي هو رسالة سعادة عارمة. المسيح هو حقًّا "المحبّ البشر"، أي الذي يحبّ كلّ كائن بشريّ، والذي يفيض على الجميع من دفق الخير والصلاح ما يفوق تصوّرات البشر وتوقّعاتهم. ولقد أفاض على مريم العذراء أمّه ما قصده منذ الأزل لخلاص البشر.
إنّ هذا التعليم في مريم يعبّر عنه أجمل تعبير نشيد المدايح:
"الأقطار تمدحك مغبّطة، وتصرخ اليك: السلام لك، أيّتها النقيّة، يا كتابًا كُتِب فيه الكلمة بإصبع الآب. فإليه ابتهلي، يا والدة الإله، أن يكتب أبناءك في سفر الحياة" (الأوذية السابعة، 4).
ويؤكّد في موضع آخر التناقض بين الإله الذي يمسك الخليقة كلّها في قبضته ويغذّي كلّ كائن حيّ، والطفل الذي تمسكه مريم بين ذراعيها وتغذّيه بلبنها:
"لقد قبلت في أحشائك الكلمة، وحملت حامل الكون، وغذوت باللبن، يا نقية، المغذّي المسكونة كلّها بإشارة" (الأوذية الثامنة 10)
وفي صلوات عيد الميلاد نذهل للتناقض بين الأزلي الذي خلق الزمن والذي يبدأ اليوم ليحيا في الزمن:
"البتول حبلت، والإله الأزلي وُلد. الولادة منظورة. وما يتمّ يفوق الطبيعة. يا للسرّ الرهيب! إنّ ما نمسك به لا يوصف، وما نراه يفوق الإدراك! مباركة أنت، أيّتها العذراء النقيّة، يا ابنة آدم المجبول من التراب، ويا أمّ الإله العليّ".
هناك ألفاظ ترد مرارًا في الصلوات الليترجيّة للتعبير عن حضور ابن الله المتجسّد في أحشاء مريم: فهو "الذي لا يحويه مكان" و"اللامتناهي"، و"غير المحدود". فمريم قد وسعت في أحشائها "الذي لا يحويه مكان"، و"غير المحدود". لذلك هي "أرحب من السماوات".
تلاشي ابن الله في تجسّده في أحشاء مريم العذراء
يقول بولس الرسول عن ابن الله المتجسّد: "هو القائم في صورة الله، لم يعتدّ مساواته لله حالة مختلسة، بل لاشى ذاته، آخذًا صورة عبد، صائرًا شبيهًا بالبشر" (في 2: 6- 7). تلاشى ابن الله يعني إفراغ ذاته من كلّ مظاهر مجد ألوهيّته ليظهر في صورتنا البشرية. فلو ظهر الله في ملء مجده، من كان يستطيع أن يحتمل بهاء ظهوره؟ إنّ ابن الله أخذ من مريم العذراء جسدًا حقيقيًّا، وكانت حياته في أحشائها حقيقيّة بقدر ما هي كذلك حياة أيّ كائن بشري في أحشاء أمّه.
نجد في الإنجيل المقدّس إشارات أخرى الى "تلاشي" ابن الله. فيسوع هو من سلالة داود. وهو إذًا عضو حقيقي من أعضاء عائلتنا البشريّة. ولتأكيد هذه الحقيقة بصورة أكثر وثوقًا، تورد لنا الأناجيل نَسَبين مختلفين ليسوع يصلان كلاهما الى يوسف الذي اعتبره معاصروه والد الطفل الإلهي (متّى 1: 1- 17؛ لو 3: 23- 28). والكنيسة تحتفل بهذه الحقيقة بتخصيص الأحدين اللذين يسبقان عيد الميلاد لذكر أجداد المسيح. وتضيف اليهم هابيل وموسى وهارون والنبيّين إيليّا وأيّوب. وهؤلاء، وإن لم يكونوا من أجداد المسيح، إلاّ أنّهم كانوا صورة له، وبعضهم تنبّأ بمجيئه. وما حضورهم يوم العيد في بيت لحم إلاّ للتأكيد أنّ يسوع المسيح هو إنسان حقيقي، وأنّه أخذ كل شيء من الطبيعة البشريّة.
كذلك الثلاثة الفتية القدّيسون الذين كانوا في بابل ليسوا من أجداد المسيح. بيد أنّنا نكرّمهم ونأتي على ذكرهم في الأناشيد والتسابيح الليتورجيّة، لأنّ حياتهم في الأتّون الملتهب كانت أشبه بنبوّة وبيان عن حقيقة حضور المسيح في أحشاء مريم العذراء. فكما أنّ لهب الأتّون غمرهم دون أن يهلكهم، كذلك تغلغل لهيب الألوهيّة في مجمل كيان مريم وأقام فيها دون أن يحرقها، ولا أن يمسّ نقاوة جسدها أو نفسها.
وإضافة الى كلّ هؤلاء الذين تدعوهم الرسالة الى العبرانيّين "هذا السحاب الكثير الكثيف من الشهود" (عب 12: 1)، تحتفل الكنيسة، في الأحد الأوّل الذي يلي عيد الميلاد، بذكرى يوسف خطّيب مريم وداود الملك جدّ المسيح ويعقوب الذي يدعوه الإنجيل "أخا الرب" أي نسيب السيّد المسيح. والهدف من كل هذه التذكارات والاحتفالات الإعلان أنّ الذي حملته مريم في أحشائها تسعة أشهر هو حقًّا الإله من الإله، وفي الوقت عينه إنسان حقيقي من لحمنا ودمنا، مرتبط بجذور إنسانيّتنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة.
الخطيئة حالة تشمل البشريّة كلّها. وكلّ إنسان يولد خاضعًا لقدرتها باستثناء ابن الله الذي اتّخذ جسدًا من جسد مريم أمّه وصار إنسانًا حقيقيًّا، ولكن دون أن يخضع لقدرة الخطيئة. فالخطيئة تتنافى وألوهيّته. هذا هو السرّ العظيم المحجوب عن الملائكة والبشر، والذي لم يخطر على قلب إنسان. لذلك كان على مريم الكلّية القداسة أن تذهب الى الهيكل بعد ولادتها المسيح لكي تتطهّر وفقًا لشريعة موسى، لأنها في ذلك شأن سائر الأمّهات اليهوديّات. كما كان على ابنها أن يخضع للختانة حسب الشريعة عينها، إذ إنّه ظهر إنسانًا "آخذًا صورة عبد". تلك هي أيضا بعض مظاهر "تلاشي" الله.
بروح لطيفة من النكتة يشير آباء الكنيسة ومعظم كتبنا الليتورجيّة الى غضب الشيطان لمّا اكتشف أنّ "العبد" كان في الواقع "ربّ الكل". لقد وقع آدم في الخطيئة ووقع فيها جميع الناس. فسرّ الشيطان بذلك. ولمّاُ ولد المسيح ظنّ الشيطان أنّه هو أيضًا خاضع للخطيئة. إلاّ أنّ المسيح ظهر منزّهًا عن الخطيئة فألحق بالشيطان الهزيمة.