ثم أقلع بولس ومن معه من قبرس إلى برجة بمفيلية فى أسيا الصغرى (أع 13 : 13 ). ولايذكر الكاتب شيئاًعن كرازتهم في برجة فى تلك المرة. وأن كان بولس وبرنابا ـ عند عودتهما إليها ـ قد تكلما بالكلمة ( أع 14 : 25 ). ولعل السبب في مرورهما الخاطف ببرجة فى ذلك الوقت، وانتقالهما إلى أنطاكية بيسيدية، هو مرض بولس بالملاريا ـ كما هو المرجح ـ مما اضطره إلى الالتجاء إلى المنطقة المرتفعة في الشمال.
وفى برجة تركهما يوحنا مرقس ورجع إلى أورشليم، ربما خشية ردود الفعل عند الكنيسة أورشليم إذا علمت بكرازتهم بالإِنجيل للأمم مباشرة، ولم يشأ أن يزج بنفسه في مثل هذا المازق، بينما رأى بولس فيما حدث في بافوس تحقيقاًلإِرساليته. أما تفسير مفارقة مرقس لهما على أساس حنينه إلى وطنه، أو لمتاعب الترحال، أو للتغيير الذي حدث فى قيادة المجموعة، أو لمرض بولس الذي استدعى تغيير البرنامج، فهذه كلها ليست سوى افتراضات لا تكفي لتبرير موقف بولس، هذا الموقف العنيد، من مرقس كما سجلة سفر الأعمال ( 15 : 37 ـ 39 )، وهو ما يدل على أن مفارقة مرقس لهما كانت لسبب أهم من مجرد هذه الأسباب الشخصية.
وفي أنطاكية بيسيدية خاطب بولس اليهود ومن يتقون الله من المتهودين، الذين كانوا مجتمعين في المجمع في يوم السبت مبيناًلهم أن يسوع هو المسيا والمخلص الموعود به في الكتب المقدسة ( أع 13 : 14 ـ 43 ).
وفى السبت التالي، اجتمع عدد كبير من الأمم لسماع كلمة الله على فم بولس، فامتلأ اليهود غيرة وجعلوا يقأومون ما قاله بولس، فتحول بولس إلى الأمم مبإشرة مواصلاًالمناداة برسالته فى المدينة، ووجد ترحيباًواسعاً( أع 13 : 44 ـ 49 ). ونتبين من هنا أسلوب بولس في الكرازة، فقد كان يبدأ أولاًبالكرازة بالإِنجيل إلى اليهود والأمم المتهودين، سواء كانوا قد أصبحوا دخلاء فعلا أو مجرد متشيعين لليهودية. ولما منع من الحديث في المجامع،توجه إلى الأمم رأساً. وقد سار بولس على هذا النهج فى كل مدينة وجد بها جالية يهودية، فيما عدا أثينا.
وفى أنطاكية بيسيدية تجدد ـ أيضاًـ منهج مقاومة اليهود لبولس ( أع 13 : 50 ) على أساس أن بولس يكرز للأمم بما لايتفق مع إيمان الآباء. وقد رأي بولس أن عناد اليهود يجعل من الضرورى الكرازة للأمم مبإشرة إذا كان لابد أن يسمعوا الإِنجيل ويأتوا إلى الله الحقيقى. اما بالنسبة لليهود فإنهم كانوا يرون في ذلك نقضاًلدعوى أن في يسوع الناصري، تتحقق جميع الوعود التي أعطاها الله للآباء. وأصبح الأمر واضحاًأمام قادة اليهود، وهو أن المسيحية تختلف تماماًعن اليهودية وكتبها، طالما أن بولس مستعد أن يعمل خارج مؤسساتها، وبذلك لا يدخل تحت مظلة حماية القانون الروماني للديانة الواحدة للشعب الوأحد. وبينما أرادت المسيحية أن تجد الشرعية في أعين روما باحتمائها تحت جناحي اليهودية، فإن أسلوب الكرازة بها، رأي فيه اليهود غزوة تستلزم المقا ومة، وهكذا اهاج اليهود النساءالمتعبدات الشريفات ( الداخلات للديانة اليهودية، من زوجات الحكام الرومان ؟ )، فحرضن أزواجهن على اعتبار بولس وجماعته سبب تعكير لسلام روما . وبناء على ذلك ثار الاضطهاد عليهما في أنطاكية، وطردا منها. وقد تكرر هذا الأمر وعلى هذا النمط كثيراًفى رحلات بولس التبشيرية.
وقد أسفرت الكرازة فى إيقونية عن إيمان جمهور كثير من اليهود واليونانيين بالمسيح ( أع 14 : 1 ). وثارت مرة أخرى قضية دعوى المسيحية بأنها امتداد لديانة إسرائيل، لها حق الحماية كديانة شرعية. وعندما انحازت السلطات المحلية لوجهة النظر اليهودية، وأصبح الاضطهاد لا يحتمل، هرب الرسولان إلى لسترة ودربه ( أع 14 : 2 ـ 6 ). والإِشارة إلى دربة ولسترة بأنهما مدينتا ليكأونية، توحى بأن إيقونية كانت تنتمي إلى مقاطعة أخرى. ولوقوع هذه المدن الثلاث في منطقة جغرافية وأحدة، ظن البعض ـ فيما مضى ـ أن لوقا قد خانته الدقة في هذا الصدد، ولكن أبحاث سير وليم رمزي أثبتت أنه في الفترة ما بين 37 ـ 72م ـ وفى تلك الفترة فقط ـ كانت دربة ولسترة تحت الحكم المبإشر لروما، بينما كان يحكم إيقونية أنطيوكس، وبينما كانت المنطقة التي تقع فيها دربة ولسترة، تسمى رسمياًليكأونية الغلاطية، كانت إيقونية في منطقة تسمى ليكأونية الانطيوكسية، وكانتا تشتهران باسم ليكأونية وفريجية، وكان خضوع مدينتي لسترة ودربة لسلطة غير السلطة التي تخضع لها إيقونية، أمراًهاماًللرسولين بولس وبرنابا، لأنهما بعبورهما الحدود تخلصا من سلطات فريجية.
وقد أثبتت لسترة ودربة أنهما منطقتان خصبتان لغرس بذرا الإِنجيل ( أع 14 : 21 )، وإن لم يخل الحال من الصعاب والمتاعب. وكان تيموثأوس أحد المتجددين فى لسترة فى هذه المرحلة الأولى ( أع 16 : 1، 20 : 4 ) وقد ضمه بولس فيما بعد إلى فريقة الكرازي. ولكن حدث في لسترة ما ضايقهما بعض الشيء، وذلك لتقلب مزاج الناس في تجأوبهم مع قوة الله وكرازة بولس. فعندما شاهدوا المقعد يمشي عندما أمره بولس بذلك، أظهروا استعدادهم لتقديم العبادة لهما باعتبارهما الإِلهين زفس ( جيوبتر عند الرومان )، وهرمس ( عطارد عند الرومان ) قد نزلا إليهما في صورة الناس، فاضطر الرسولان إلى إسكات الجموع، وتكلما إليهم بشدة محأولين تحويل عبادتهم إلى الإِله الحي ( أع 14 : 8 ـ 18 )، ومن الناحية الأخرى، عندما عرفوا أنهما ليسا آلهة، وأنهما قد يكونان مجرد مضللين، وبتحريض من اليهود الذين جاءوا من أنطاكية وإيقونية، تحول احترامهم إلى كراهية حتى انهم رجموا بولس ( أ ع 14 : 19 ).
يتبع