إنّ تعليم أسقف رومة لا يتمتّع بعصمة الكنيسة إلاّ ضمن الشروط التالية:
أوّلاً، أن يقصد قصدًا صريحًا ممارسة سلطانه التعليمي الأعلى فيعلّم بكونه راعيًا ومعلّمًا أعلى لجميع المسيحيين.
ثانيًا، أن يقصد تحديد عقيدة إيمانية للكنيسة جمعاء
ثالثًا، أن يكون تعليمه متعلّقًا بشؤون الإيمان والآداب فقط.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عصمة أن المبدأ القانوني لتكوين المجامع غير كافٍ. فإنّ سرّ الحياة يفجّر من الداخل كل تحديد شكلي صرف. فمجمع سرديكا سنة 344 ظنّ نفسه مجمعًا مسكونيًا، لكن الكنيسة حفظته مجمعًا محليًا. ومجمع القسطنطينية سنة 381 كان مجمعًا شرقيًا، لكنّه دخل في التاريخ كمجمع مسكوني واعتبر الثاني في عداد المجامع المسكونية. ومجمع أفسس المنعقد سنة 439 والذي دعي "مجمع اللصوص" كسره مجمع خلقيدونية المسكوني سنة 451. ومجمع القسطنطينية المنعقد سنة 553 لم يعتبره الغرب مجمعاً مسكونيًا إلا سنة 700. والمجمع المنعقد سنة 754 اعتبر هرطوقيًا. وكذلك مجمع سنة 869 ألغي بعد عشر سنوات سنة 879. ومجمع فلورنسا سنة 1439 نبذه الشعب الأرثوذكسي، مع أنَه كان قد التأم حسب القوانين المطلوبة لانعقاد المجامع المسكونية..
"إنّ القياس القانوني الشكلي لشروط السلطة المطلقة واعتبار المجمع نفسه مسكونيًا أمران غير كافيين. فكل قرار عقائدي أو قانوني يجب أن يقبله شعب الكنيسة، فيدخل في الجسد، ومتى اتّحد بجسد الكنيسة ودمها، وصار مماثلاً جوهرها، ودخل في صلب إيمانها، يقال عنه إنه كاثوليكي ويمكن أن يرى فيه الزرع الرسولي.
"إنّ مجمع أورشليم الذي هو نموذج المجال لعكس جيّدًا الشروط الداخلية لإجماع الرأي في الحياة الرسولية: "كان جميع المؤمنين معًا؟ وكان كل شيء مشتركًا في ما بينهم" (أع 2، 44). ولدى اتّخاذ قرار: "اجتمع الرسل والشيوخ لينظروا في هذا الأمر" (15: 6)، "حينئذ رأى الرسل والشيوخ، مع الكنيسة كلّها.." (15: 22) "فرأينا بالإجماع" (15: 25)، "فلقد رأى الروح القدس ونحن" (15: 28). إنّ الكنيسة كلّها تشترك، دون فصل أو معارضة بين الكهنة والعلمانيين، ولكن أيضاً دون اختلاط، بل في الاتّفاق التام مع جميع أعضاء الجسد الواحد، وبنفس واحدة.
"إنّ نمو الكنيسة السريع قد أبرز النعمة الخاصة التي يملكها الأساقفة لتمثيل الكنيسة. ولكنّ القديس كبريانوس يكتب من منفاه لإكليروس كنيسته: "لقد قرّرت أن لا أقوم بشيء دون مجلسكم ودون موافقة الشعب. لذلك لدى عودتي سنبحث في كلّ شيء معاً" (رسالة 14: 4). وقد كان أيضاً للرهبان نشاط كبير في أعمال المجامع المسكونية (ابتداء من المجمع الثالث)، فكانوا في المجمع السابع حوالي 130، وكان لهم فيه حق الاقتراع.
"وفي زمن المجامع المسكونية السبعة كان المجمع المسكوني مؤسسة كنسية ومدنية في آن واحد. فقد كان يعود للامبراطور أن يدعو إلى عقد مجمع مسكوني. إلاّ أنّ ممثّلي الدولة كانوا يشتركون فقط من الخارج لمراقبة النظام وحماية حرية الآراء، دون أي اشتراك في الاقتراع. والقرارات كان يوقّعها الآباء. أمّا قبول القرارات من قبل الإمبراطور، بصفته العضو الأوّل في الكنيسة، فكان يضفي عليها قوة الشريعة لجميع المواطنين. وكان اتفاق آباء المجمع يتمّ حول الحقيقة التي أوحى بها الروح القدس. لذلك لم يكن من مجال في نهاية الأعمال لتكوين أقفية وأكثرية، أو آراء شخصية خاصة. وكانت القرارات تقبل مباشرة على الصعيد التأديبي، ولكن "بشكل مشروط"، إلى أن تقبلها الكنيسة كلّها جمعاء، وعندئذ تعتبر "بشكل غير مشروط" صادرة عن مجمع هو حقًّا مسكوني وكاثوليكي يعبَر عن العقائد والحقائق المعصومة. تلك الصفة المطلقة تفسّر التقليد الذي درجت عليه المجامع المسكونية بإعلان أمانتها للتحديدات السابقة: "هكذا آمن الرسل والآباء". فالمجمع يكون مسكونيًا، لا لأنّه يتأف من ممثّلين نعترف بهم كل الكنائس المحلية بل لأنه يشهد على الإيمان ويكشف الحقيقة. فالروح القدس هو الذي يجعل مجمعًا كاثوليكيًا حقًا، والجسد يؤكّده في الزمن الذي يريده الله.
"المجامع اليوم في عصر مختلف. والأوضاع الخارجية الشكلية والعلاقات مع سلطات الدول مختلفة تمام الاختلاف عن الماضي. لكن الحقيقة السرية للكنيسة تبقى ثابتة غير متزعزعة، وكذلك تواتر الأمانة لمبدإ الحياة نفسه. فالعصمة ليست إلا للكنيسة في كامل وجودها الإلهي والإنساني، ولكيانها العميق الذي هوس حضور الحقيقة. أمّا إجماع الشعب فليس أمرًا ديموقراطيًا، ولا مجرد ما يتفق عليه الجميع، إنّمَا يعبر عن رغبة الجميع بمطابقة الحقيقة، وعن معجزة الكنيسة الدائمة: استمرار المسيح الكلّي".
ج) عصمة أسقف رومة
سقف رومة لا تختلف عن عصمة الكنيسة. وهذا ما يؤكده المجمعان المذكوران: "إنّ أسقف رومة.. يملك.. تلك العصمة التي شاء الفادي الإلهي أن يمدّ بها كنيسته.."، "إنّ هذه العصمة التي شاء الفادي الإلهي أن يمدّ بها كنيسته.. يتمتعّ بها الحبر الروماني.. إنّ الحبر الروماني.. هو المعلّم الأعلى الذي يستقرّ فيه، بصفة فريدة، امتياز العصمة الذي هو امتياز الكنيسة بالذات". ويسند المجمعان عصمة أسقف رومة إلى العون الإلهي الذي وُعد به شخص القدّيس بطرس. فأسقف رومة هو "خليفة بطرس ونائب المسيح والرأس الظاهر للكنيسة كلّها" (دستور عقائدي في الكنيسة، 18)، فيتمتعّ إذًا بسلطة بطرس الذي أوكل إليه المسيح رعاية كنيسته كلّها: "إرع خرافي.. إرع نعاجي.." (يو 21: 15- 17)، "سمعان، سمعان، هوذا شيطان قد طلب في إلحاح أن يغربلكم كالحنطة. وأنا صلّيت لأجلك لكي لا يزول إيمانك. وأنت متى عدت فثبّت إخوتك" (لو 22: 31، 32).
أمّا قول المجمعين عن تحديدات أسقف رومة إنها "غير قابلة للتعديل بقوة ذاتها لا بقوّة إجماع الكنيسة عليها" فيعني أنّه ليس من الضروري أن يلتئم مجمع لاحق للمصادقة عليها، "لأنّها، حسب قول المجمع الفاتيكاني الثاني، صدرت بمعونة الروح القدس التي وُعد بها أسقف رومة في شخص القدّيس بطرس، ولا يعوزها من ثمّ موافقة الغير، ولا يمكن أن كون موضع استئناف إلى محكمة أخرى". ولكن في الواقع فإنّ أسقف رومة لا يحدّد إلاّ بعد إطّلاع مسبّق على رأي سائر الأساقفة. وما يعلنه ليس إيمانه الخاص بل إيمان سائر الأساقفة وإيمان الكنيسة جمعاء.
إنّ عقيدة عصمة أسقف رومة لا تزال عقدة العقد في الحوار بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية، لا سيّمَا وأنّها صدرت عن مجمعين يعتبرهما الكاثوليك في عداد المجاَمَع المسكونية. ولكنّ هناك نزعة في اللاهوت الكاثوليكي المعاصر لاعتبار كل المجامع التي التأمت بعد الانفصال بين الشرق والغرب سنة 1054 مجامع عامة غربية، وليس مجامع مسكونية، إمّا لأنّ أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية لم يشتركوا فيها، وإمّا لأنّ الكنيسة الأرثوذكسية لم توافق على قراراتها.
3- نظرة معاصرة إلى عصمة الكنيسة
أولاً، يجب التأكيد أنّ العصمة لا تعني إنعامًا تتمتّع به الكنيسة لإعلان عقائد جديدة بوحي جديد من الله. فالوحي الكامل قد اتانا في يسوع المسيح، ولا وحي جديد بعده. الروح القدس قول يسوع، لن يأتي بشيء مغاير لمَا قاله يسوع: "إنه سيمجّدني لأنّه يأخذ ممّا لي ويخبركم" (يو 16: 14)؛ "قلت لكم هذه الأشياء وأنا مقيم معكم، وأمّا المحامي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو الذي يعلّمكم كلّ شيء، ويذكّركم جميع ما قلت لكم" (يو 14: 25، 26). وعن هذا يقول المجمع الفاتيكاني الثاني:
"عندما يصدر الحبر الروماني، أو هيئة الأساقفة بالاتّحاد معه، تحديدًا فإنّما يصدرانه طبقًا للوحي بالذات الذي يجب على الجميع أن يأخذوا به ويتطابقوا معه، هذا الوحي المنقول بتمامه بالكتابة أو بالتواتر، بواسطة الخلافة الأسقفية الشرعية، وخاصة باهتمام الحبر الروماني بعينه. وهذا الوحي محفوظ بدقة فائقة في الكنيسة ومعروض بأمانة في نور روح الحقيقة. ويجتهد الحبر الروماني والأساقفة باهتمام في اكتناه هذا الوحي بضمير حي، والتعبير عنه تعبيرًا سويًا، واعين تمَام الوعي واجبهم وخطورة الأمر، متوسّلين إليه الوسائل الملائمة، ولكنّهم لا ينزل عليهم أي وحي جديد عام يعد من مضمون وديعة الإيمان الإلهية" (دستور عقائدي دي الكنيسة، 25).
ثانيًا إنّ موضوع العصمة، كموضوع العقيدة، ليس بالتعابير التي تعبّر من خلالها السلطة التعليمية عن العقيدة، بل جوهر العقيدة. فالتعابير دومًا مرتبطة بثقافة معيّنة وفلسفة معينة، ويمكن بالتالي أن تتغيّر مع الزمن. أمّا جوهر العقيدة فلا يمكن أن يتغيّر وإنّ هذا التمييز بين جوهر العقيدة والتعابير التي تصاغ فيها العقيدة عبر الزمن يساعدنا على تخطّي مشكلات كثيرة برزت في تاريخ الكنيسة وقسمت الكنائس. فجمع خلقيدونيا المنعقد سنة 451 حدّد مثلاً أنّ في يسوع طبيعتين، طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية، وكان سبب انفصال الكنائس القبطية والأرمنية والسريانية التي دعيت "الكنائس القائلة بالطبيعة الواحدة"، والتي يقال لها اليوم "الكنائس غير الخلقيدونية". إلاّ أنّ ما ترفضه تلك الكنائس ليس جوهر العقيدة، أي إنّ يسوع هو إله وإنسان معًا، بل التعبير الذي وردت فيه تلك العقيدة. فإنّ لفظة "طبيعة"، في نظرها، تعني الشخص الكامل، والقول إنّ في يسوع طبيعتين هو، في نظرها أيضاً، مرادف للقول إنّ فيه شخصين، وفي ذلك عودة إلى النسطورية التي ترفضها جميع الكنائس الخلقيدونية وغير الخلقيدونية. فالعقيدة التي أعلنها مجمع خلقيدونية لا تقبل التعديل في جوهرها، أمّا في صيغاتها فبالإمكان أن يعيد مجمع مسكوني النظر فيها.
ثالثًا، إنّ التعابير التي تحدّد بها الكنيسة العقائد الإيمانية، مهما بلغت من الدقّة، تبقى بعيدة عن أن تفي بسر اله "الذي لا تمثّل عزته، ولا يدرك مجده، ولا تقاس رحمته، ولا يفي وصف بمحبته للبشر"، كما تقول ليتورجيا القدّيس يوحنا الذهبي الفم. إنّ كلّ التعابير اللاهوتية تبقى تعابير بشرية تساعد لا على إدراك الله كما هو في كيانه، بل على التقرّب قدر الإمكان من سرّه والدخول في علاقة حياتية ووجودية معه. إنّ الهدف الأخير من تحديد العقائد الإيمانية ليس الله بقدر ما هو توضيح علاقة الله بالإنسان والموقف الذي يجب أن يتّخذه الإنسان من الله ومن الكون.
رابعًا، في هذا الإطار الفكري المعاصر يجب فهم "العصمة" فيّ تحديد العقائد. لقد تأثر الفكر اللاهوتّي المسيحى منذ القرون الوسطى بنظرة أرسطوطاليس للحقيقة. فالحقيقة، في نظر هذا الفيلسوف، هي مطابقة الفكر للواقع. ورأى الفلاسفة العقلانيون، ابتداء من القرن الثامن عشر، أنّه بإمكان العقل البشري تصوير الواقع بدقة، بحيث يمكن القول إنّ الفكرة هي صورة طبق الأصل للواقع. وفي تلك النظرة تبدو العصمة وكأنّها القدرة، بمؤازرة الروح القدس، على إدراك الأمور الإلهية إدراكاً كاملاً، ووصفها وصفًا دقيقًا كما هي في ذاتها، والتعبير عنها دون خطأ.
أمّا اليوم فيتّجه اللاهوت المعاصر إلى فهم "عصمة الكنيسة" لا بالمعنى العقلاني بل بالمعنى الوجودي الذي كان سائدًا في القرون المسيحية الأولى. أي إنّ المسيحي الذي يؤمن بمَا تعلمه الكنيسة ويخضع لمَا تأمر به يستطيع أن يثق الثقة التامة بأنه لن يضلّ بل يحيا في الحق، وأنّ الكنيسة لن تقوده إلى الضلال بل إلى حقيقة الله وإلى إنشاء علاقة خلاصية مع الله.
خامساً، يستند المسيحي في إيمانه هذا إلى وعد المسيح بأنّه سيكون مع كنيسته إلى الأبد، وإلى وجود الروح القدس، روح الحق، في الكنيسة. ولكنّ وعد المسيح ووجود الروح القدس لا يزيلان حدود الإنسان في إمكان بلوغه إدراك الله والتعبير عن سره تعبيرًا كاملاً. تلك هي المفارقة التي لا بدّ للمؤمن من أن يعيش فيها. فهو يؤمن من جهة أنّ الله قد أوحى إلينا بذاته في الأنبياء وفي آخر الأزمنة في شخص يسوع المسيح الذي هو رأس الكنيسة والحاضر فيها بروحه القدّوس، ولكنّه يعم من جهة أخرى أن أعضاء الكنيسة هم بشر محدودون في إمكاناتهم الفكرية ومعرّضون للخطأ في تعبيرهم عن الحقيقة. ورغم ذلك يؤمن أنّ قدرة الله تفوق حدود الإنسان، وأنّ روح الحق الذي هو روح الكنيسة سيبقى فيها تلك القوّة التي تركها وتحييها وتقودها إلى الله. وكلّما أخطأ أعضاء الكنيسة يؤمن أنّ روح الحق سيعيدهم إلى الله الحق.
سادساً، إذا عدنا في الواقع إلى الظروف التي تمّ فيها تحديد العقائد الإيمانية من قبل الكنيسة، نلاحظ أنّ معظم العقائد قد تمّ تحديدها بمناسبة ظهور تعاليم رأت فيها الكنيسة تقويضاً للإيمان الذي تسلّمته من الرسل. فالعقائد المسيحية في صيغها وتعابيرها الحالية هي جواب على البدع والهرطقات التي ظهرت في تاريخ الكنيسة وكادت تمزّق جسد المسيح. فإزاء الخطر المحدق بالكنيسة رأت السلطة المعلّمة أن تلتئم في مجامع إقليمية أو عامة أو مسكونية، لتحديد الإيمان المسيحي، فاختارت من بين الصيغ والتعابير المتداولة في تلك الحقبة من الزمن ما رأته أكثر ملاءمة لتأدية جوهر العقيدة كما تناقلته الكنيسة منذ الرسل وكما دوّن في الكتاب المقدّس.
فالتحديدات العقائدية هي إذن عمل رعائي وليست عملاً عقلانيًا، وهدفها الأوّل ليس الإحاطة بسر الكيان الإلهي بل تحديد الخط الذي يجب أن يسلكه التعبير اللاهوتي لكي لا يحيد عن جوهر الإيمان. فالهدف من عقيدة المجمع الخلقيدوني في طبيعتي المسيح كان التأكيد أنّ المسيح شخص واحد وأنّه إله وإنسان معًا. أمّا لفظة "الطبيعة" التي استعملها المجمع فقد لجأ الرضا لأنه رأى فيها أقرب صيغة في زمنه وفي متناول يده للتعبير عن هذين الأمرين في المسيح: إنّه شخص واحد وهو إله وإنسان معاً. وهكذا حدّد المجمع جوهر العقيدة بالنسبة إلى إيماننا بالمسيح. ولكنّه في الوقت نفسه حدّ التعبير اللاهوتي وحدّ حرية اللاهوتيين في اختيار تعبير آخر. إنّ تحديد جوهر العقيدة يثبت إلى الأبد، وهو أساس الإيمان المسيحي، وبدونه تختار المسيحية، أمّا حدّ حرية اللاهوتيين فلا يمكن أن يُقبل إلاّ لفترة من الزمن لمنع الشقاق في الكنيسة وتوحيد الكلمة حول تعبير واحد وصيغة واحدة. ولكن لا شيء يمنع الكنائس المسيحية، متى زالت الاضطرابات وزال خطر البدع والهرطقات، من إعادة النظر في التعابير اللاهوتية لا يجاد تعابير أخرى أكثر ملاءمة للعصر الحاضر.
سابعاً، لا بدّ من التمييز بين "العقائد الإيمانية" و"الآراء اللاهوتية". فالأولى هي التي تكون جوهر الإيمان المسيحي، لذا يجب أن تكون موضوع اتفاق بين جميع المسيحيين، وهي التي يتضمّنها قانون الإيمان النبيقاوي. أمّا الثانية فهي وليدة تفكير لاهوتي متأثّر بإطار ثقافي معيّن، ويمكن أن تكون موضوع تعددية لاهوتية وموضوع خلاف أن لاهوتيي كنيسة واحدة أو بين كنائس مختلفة. فالوحدة المسيحية تفترض فقط الاتفاق على "العقائد الإيمانية"، وليس على الآراء اللاهوتية.
والعصمة مرتبطة بالعقائد الإيمانية وليس بالآراء اللاهوتية، لأنّ العقائد الإيمانية تعنى بعلاقة الله الكيانية والجوهرية بالإنسان، وبعلاقة الإنسان الكيانية والجوهرية بالله، وهي الأساس الذي ترتكز عليه الكنيسة لتؤمن أنّها ستثبت في الحق ولن تسقط في الضلال ولن تقوى عليها قوى الجحيم، أمّا الآراء اللاهوتية فتحلّل الأمور الدينية لتكشف عن غوامضها وتعبّر عن دقائقها، وهذا التحليل هو تحليل عقلاني لا بدّ أن يختلف بين شعب وآخر وثقافة وأخرى وعصر وآخر. لذلك يؤثر اللاهوتيون المعاصرون استعمال لفظة "ثبات الكنيسة"، عوضاً عن لفظة "عصمة الكنيسة عن الخطأ". فالكنيسة، وإن أخطأت في دقائق تعبيرها عن الأمور الإلهية في مسيرتها الطويلة والشاقة نحو الحق، تلك المسيرة التي لن تنتهي إلاّ في نهاية الأزمان، إلاّ أنّها تؤمن، استنادًا إلى وعد المسيح، أنّها ستثبت في الحق، وأنّ قوى الجحيم والضلال لن تقوى عليها. وثبات الكنيسة رهن بثباتها في "الحقائق الجوهرية" التي تكوّن كيانها، رغم اختلاف أعضائها على بعض "الآراء اللاهوتية" الثانوية بالنسبة إلى كيانها وجوهرها. ما من أحد معصوم عن الخطأ، لكنّ الكنيسة ستثبت إلى الأبد وفي الحق.