ثانياً- الكنيسة أسرة روحية يشترك أعضاؤها معًا في حياة الله
1- الأسرة الروحية: الكنيسة أمّ والمسيحيّون إخوة
الكنيسة هي شعب الله. إنّ هذا التعريف الأوّل يتّضح بالتعريف الثاني الذي يؤكّد أنّ أعضاء هذا الشعب يشتركون في حياة الله. ورباط الشركة في الحياة الإلهية يجعلهم إخِوة في أسرة واحدة. فالكنيسة أسرة روحية تعيش من حياة الله التي ظهرت في شخصِ يسوع المسيح كلمة الله. وكما أنّ الإنسان يولد في عائلة تعطيه الغذاء والحنان، ويشترك ني خيراتها الجسدية والروحية مع أب وأم وإخوة، هكذا يولد المسيحي في عائلة روحية تسكب في قلبه محبة الله للبشر، تلك المحبة التي ظهرت للعالم في المسيح ولا تزال تستمرّ بواسطة الإنجيل والأسرار وتغدق عليه نعمة الله وحياته الإلهية. ففي الكنيسة يشترك المؤمن في حياة الله الآب والابن والروح القدس مع إخوة له مؤمنين.
لقد دُعيت الكنيسة أُمًّا، لأنّه فيها يولد المؤمن من جديد للحياة الإلهية. إنّ الكنيسة لم تتكوّن، كما تتكوّن سائر الجماعات البشرية، بقرار اتّخذه بعض الناس بالاجتماع معًا لتحقيق هدف معيّن. فللدخول في سر الكنيسة يجب التأكيد أنّ هناك معطيات تسبق إرادة البشر في الاجتماع معًا، هناك حقيقة جديدة تكوّنت بالعهد الجديد الذي تمّ في المسيح بين الله والبشر. فقبل إرادة البشر حقّق الله المصالحة الشاملة بينه وبين الناس بحسب قول بولس الرسول: "إنّ الله هو الذي صالح، في المسيح، العالم مع نفسه، ولم يحسب عليهم زلاّتهم، وأودعنا كلمة المصالحة". لذلك "إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة" (2 كو 5: 17- 19).
والدخول في الكنيسة هو، بحسب قول يسوع لنيقودموس، ولادة جديدة: "ليس أحد يقدر أن يدخل ملكوت السماوات، ما لم يولد من الماء والروح" (يو 3: 5). وهذا ما يعنيه بولس الرسول بقوله للغلاطيين: "يا أولادي الصغار، الذين أتمخّض بهم من جديد إلى أن يتصوّر المسبح فيهم" (غلا 4: 19).
إنّ الكنيسة هي عروس المسيح التي تلد أولادًا للحياة الإلهية. إنّها، كما جاء في سفر الرؤيا، "أورشليم الجديدة، التي نزلت من السماء من عند الله مهيّأة كعروس مزيّنة لعريسها" (رؤ 21: 9). إنّها عروس المسيح، "الذي أحبّها وبذل نفسه لأجلها ليقدّسها بغسل الماء والكلمة، إذ كان يريد أن يزفّها إلى نفسه كنيسة مجيدة، لا كلف فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك، بل مقدّسة، عيب فيها" (أف 5: 25- 27).
وفي هذه الأسرة الروحية يقدّس المسيح جميع المسيحيين ويغذّيهم بالكلمة، أي بالإنجيل، وبالماء، أي بالمعمودية وسائر الأسرار، ولا سيّمَا سر الإفخاريستيا المنّ السماوي.
في المسيح، يصير جميع المؤمنين إخوة يعيشون الشركة في الإيمان الواحد والشركة في الأسرار الواحدة، على غرار الشركة التي تتحقّق بين إخوة في أسرة واحدة في قرابة الدم وشراكة المسكن والمأكل والمشرب والحياة. إنّ اشتراك المسيحيين هو اشتراك في منابع الحياة التي منها تنبثق حياتهم المسيحية وبها تتغذى لتنمو وتدوم.
2- الكنيسة مؤسَّسة فيها خِدَم متنوّعة
إنّ رباط الشركة والأخوّة بين المسيحيين لا يمكن أن يتحقّق إلاّ إذا دخل الإنسان بالإيمان في هذا الرباط. والإيمان يقتضي الرسالة، والرسالة تتطلّب الخدم المتنوعة: "يؤمنون به إن لم يسمعوا به، وكيف يسمعون به بلا مبشّر، وكيف يبشّرون إن لم يرسَلوا.. فالإيمان إذن البشارة، والبشارة بأمر من المسيح" (رو 10: 14- 17). لا يمكن الاكتفاء في الكنيسة "بشركة الأخوّة"، ذاك الرباط السري الذي يربط المسيحيين بعضهم ببعض، وإهمال الخدم. يقول بولس الرسول:
"لا جرم أنّ المواهب على أنواع، إلاّ أن الروح واحد، وإن الخدم على أنواع، إلاّ أن الرب واحد، وإنّ الأعمال على أنواع، إلاّ أنّ الله واحد، وهو يعمل كل شيء في الجميع. وكل واحد إنّما يعطى إظهار الروح للمنفعة العامة. فالواحد يعطى، من قبل الروح، كلام حكمة، والآخر كلام علم، بحسب الروح عينه، والآخر الإيمان، بذلك الروح عينه، والآخر موهبة الشفاء بالروح الواحد عينه، وآخر إجراء العجائب، وآخر النبوّة، وآخر تمييز الأرواح، وآخر أنواع الألسنة، وآخر ترجمة الألسنة. وهذه كلّها يفعلها الروح الواحد بعينه، موزّعاً، كيف شاء، كل واحد خصوصاً" (1 كو 12: 4- 11).
تتّخذ الكنيسة في الزمن الحاضر شكل "مؤسّسة" فيها خدم متنوّعة وهذه الخدم لا بدّ منها لإظهار غزارة مواهب الروح وإنماء الحياة في أعضاء الكنيسة. أمّا تنظيم هذه الخدم فلا يمكن أن يُترَك لحرية كل مسيحي، بل يعود إلى الأساقفة خلفاء الرسل، الذين أو إليهم المسيح مهمة رعاية الكنيسة، حسب قول بولس الرسول لأساقفة كنيسة أفسس:
"إحذروا لأنفسكم ولجميع القطيع الذي أقامكم فيه الروح القدس أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه الخاص". تم يضيف: "وإنّي لعالم بأنّه بعد فراقي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة، لا تشفق على القطيع، ومنكم أنفسكم سيقوم رجال يحاولون بأقوالهم الفاسدة أن يجتذبوا التلاميذ وراءهم. فاسهروا إذن، وتذكّروا أنّي، مدة ثلاث سنوات، لم أكفّ ليلاً ونهاراً عن نصح كل واحد منكم بالدموع" (أع 20: 28- 31).
ويوصي بولس أساقفة تلك الكنيسة بالسهر على إيمان القطيع الذي أوكل إليهم، وتلك إحدى النواحي التي تهدف الخدم المتنوّعة في الكنيسة إلى تحقيقها. وفي مواضع مختلفة من الرسائل يؤكّد بولس ضرورة اهتمام الأساقفة والكهنة بالتمسك بالكلام الصحيح (2 تي 1: 13- 14؛ 1 تي 1: 9) وبوديعة الإيمان (1 تي 6: 20 "يا تيموثاوس، احفظ الوديعة").
إذن الإيمان والأسرار والمسؤولية الرعائية هي النواحي الثلاث الأساسية التي تدور حولها جميع المؤسّسات الكنسية وجميع الخدم الكهنوتية، وهي تكمّل إحداها الأخرى: فالأسرار تعبّر عن الإيمان وتنميه، والمسؤولية الرعائية هي في خدمة الإيمان والأسرار، وكلّها تهدف إلى سكب حياة الله في قلوب المسيحيين ومن خلالهم في مختلف مرافق العالم. إنّ المؤسّسات الكنسية لا يمكنها أن تكون مؤسّسات جامدة، فلقد أرادها المسيح ينبوع حياة، وعلى الكنيسة أن تقوم "بإصلاح دائم في مؤسّساتها البشرية الأرضية"، على قول المجمع الفاتيكاني الثاني (الحركة المسكونية، رقم 6).
3- الأخوّة المسيحية حقيقة روحية تتخطّى الأخوّة البشرية
إنّ رباط الأخوّة الذي يربط المسيحيين بعضهم ببعض هو رباط روحي إلهي. فبيسوع المسيح نحن إخوة بعضنا لبعض. إنّ قريبي هو أخي بسبب ما صنعه المسيح لأجله، وأنا أخ لقريبي بسبب ما صنعه المسيح لأجلي. إنّ هذا الرباط هو حقيقة مختلفة عن كل ما يمكن تحقيقه على الصعيد البشري والنفساني. فالمساجين والمرضى والمشرّدون في الشتات، والمرسلون إلى البلاد النائية غالباً ما يشعرون بالعزلة على الصعيد الإنساني والنفساني. وقد يشعر بتلك العزلة المسيحيون العائشون في العالم، والرهبان العائشون في "حياة مشتركة" في الأديرة. فإنّ تحقيق الأخوّة تحقيقاً محسوساً، بحيث يشعر المسيحي بدفء الأخوّة المسيحية، أمر ثانوي بالنسبة إلى الإدراك الروحي العميق للرباط الذي يربط المسيحي بأخيه المسيحي. فهناك في أغلب الأحيان مفارقة لا بدّ للمسيحيّ من حملها والاضطلاع بها بين الأخوّة الروحية والشعور النفساني الحسي بحرارة تلك الأخوّة.
ثمّ إنّ الأخوّة المسيحية لا ثقتصر على العلاقات بين الأشخاص القريبين بعضهم من بعض، بل تتعداهم إلى جميع البعيدين عنّا والذين لا نعرفهم.
وأخيراً تعمل المحبة المسيحية ليس فقط في الأشخاص بل أيضاً في جميع الشرائع والبنى الاقتصادية والسياسية التي تؤثّر في عمل الناس وحياتهم. فكل تلك الشرائع والبنى العالمية مدعوّة إلى أن تمتلئ بروح الأخوّة التي يحياها المسيحيون بعضهم مع بعض.
وهكذا تمتدّ الكنيسة، حياة الله بين البشر، ليس فقط بين المسيحيين، بل بين جميع الناس وفي جميع المؤسسات العالمية امتداد الخمير في العجين، إلى أن يصل جميع الناس إلى إدراك حياة الله الواحد في ذواتهم وفي العالم أجمع، ويسبّحوا بفم واحد وقلب واحد اسم الله الواحد، الآب والابن والروح القدس.
ثالثاً- الكنيسة جسد المسيح
1- غاية التجسد تأليه الإنسان
"لماذا صار الإله إنساناً"؟ "لكي يصير الإنسان إلهاً". هذ هو جواب آباء الكنيسة الشرقية منذ القدّيس إيريناوس. فغاية التجسّد ليست التكفير عن الخطيئة الأصلية بل تأليه الإنسان بولادته ولادة جديدة في المسيح وعلى صورة المسيح. إنّ القدّيس إيريناوس يرى أنّ الخطيئة ليست حادثاً غيّر قصد الله فقرّر إرسال ابنه لخلاص العالم، بل إن تجسّد ابن الله هو في قصد الله منذ خلق العالم. إنّ العالم خلق طفلاً، والخطيئة هي مرحلة عابرة ملازمة لحالة الإنسان قبل بلوغه. في المسيح بلغ الإنسان كمال الإنسانية، في المسيح ظهر "الإنسان البالغ". وزمن الكنيسة هو الزمن الذي يدعى فيه كل إنسان ليحقّق في ذاته "حالة الإنسان البالغ وملء اكتمال المسيح" (أف 4: 13).
وهذا الإنسان البالغ هو "الإنسان الجديد" الذي يتكلّم عنه بولس الرسول في رسالته إلى الأفسسيين حيث يجمع بين "الإنسان البالغ" و"الإنسان الجديد":
"ومن ثمّ، فلا نكون بعد أطفالاً تتقاذفنا الأمواج، وتعبث بنا كل ريح تعليم على هوى مكر الناس وخبثهم في طرق التضليل، بل نعتصم بالحق في المحبة فننمو في كل وجه، مرتقين نحو من هو الرأس، أي المسيح، الذي منه ينال الجسد كلّه التنسيق والوحدة، وبتعاون جميع المفاصل، على حسب العمل المناسب لكل عضو، ينشئ لنفسه نمواً، ويبنى في المحبة" (أف 4: 14- 16).
وبعد هذا التوسّع في نمو الإنسان إلى المسيح، يتابع الرسول فيتحدّث عن الإنسان الجديد:
"ينبغي لكم أن تخلعوا عنكم، ما هو من أمر حياتكم السالفة، الإنسان العتيق، الفاسد بشهوات الغرور، وأن تتجدّدوا في صميم أذهانكم، ودق تلبسوا الإنسان الجديد، الذي خُلق على مثال الله في البرّ وقداسة الحق" (4: 2- 24).
وحتى يستطيع الإنسان أن يحيا حياة الله كان لا بدّ أن يصبح الإله إنساناً ليرفعه إليه، كان لا بدّ أن يأتي آدم الثاني إنساناً روحياً، إنساناً "نازلاً من السماء". إن هذا التعبير المكاني هو صورة بشرية لحقيقة هوى إلهية هي أن المسيح هو ابن الله، هو "إنسان كامل وإله كامل"، بحسب تعبير مجمع خلقدونية. وهذا ما يعينه بولس بقوله:
"جُعل الإنسان الأوّل، آدم، نفساً حية، وآدم الآخر روحاً محيياً. ولكن لم يكن الروحاني أوّلاً، بل الحيواني ثم بعدئذٍ الروحاني. الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال التراب يكون الترابيون، وعلى مثال السماوي يكون السماويون. وكما لبسنا صورة الترابي فلنلبس أيضاً صورة السماوي" (1 كو 15: 45- 49).
وهذا ما يعنيه أيضاً يسوع بقوله "إنّه لم يصعد أحد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن البشر الكائن في السماء" (يو 3: 13).
إن تأليه الإنسان لا يزيل طبيعته الإنسانيّة. فكما أنّ الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية اتّحدنا في شخص المسيح "دون اختلاط ولا انفصال"، بحسب قول المجمع الخلقيدوني عن المسيح الإله والإنسان، كذلك في الإنسان المؤله بالمسيح تبقى الطبيعة الإنسانية كاملة، ولكنّ النعمة تضفي عليها بعداً جديداً هو بعد الإتحاد بحياة المسيح وكيان المسيح، حتى يتصوّر المسيح في الإنسان. يقول متوديوس الأوليمبي: "كأنّ الكنيسة حبلى وفي المخاض، إلى أن يتصوّر المسيح في كلّ منا، بحيث يشترك كل من القدّيسين في المسيح، ويصير مسيحاً".
2- الكنيسة جسد المسيح
أ) الكنيسة أعضاء مختلفة متّحدة برأس واحد هو المسيح
إنّ إتحاد المسيحيين جميعهم بالمسيح يجعلهم، على كونهم أعضاء مختلفة، جسداً واحداً: "فكما أنّ الجسد واحد، وله أعضاء كثيرة، وأنّ جميع أعضاء الجسد، مع كونها كثيرة، هي جسد واحد، كذلك المسيح أيضاً. فإنّا جميعاً قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهوداً كنّا أم يونانية، عبيداً أم أحراراً، وسقينا جميعاً من روح واحد" (1 كو 12: 12، 13).
بالمعمودية يصبح المسيحيون واحداً في المسيح. وكذلك بالإفخارستيا: "كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة في دم المسيح؟ والخبز الذي نكسره أليس هو شركة في جسد المسيح؟ فبمَا أن الخبز واحد، فنحن الكثيرين جسد واحد، لأنّا جميعاً نشترك في الخبز الواحد" (1 كو 10: 16، 17)
إنّ الكنيسة جسد واحد يحيا فيه جميع الأعضاء من حياة الله التي ظهرت للبشر في يسوع المسيح، ولا تزال تُمنح لهم في الأسرار المقدّسة. والمسيح هو رأس هذا الجسد: "إنه رأس الجسد، أي الكنيسة. إنّه المبدأ، البكر من بين الأموات، لكي يكون هو الأوّل في كل شيء، ففيه ارتضى الله أن يُحلَّ الملء كلّه" (كو 1: 18). ففي المسيح يحلّ ملء اللاهوت، "وهو الرأس الذي ينال الجسد كله التنسيق والوحدة" (أف 4: 16). والمسيح هو "مبدأ ائتلاف" كل أعضاء الجسد.
ثمّ إنّ قصد الله هو "أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح، كل شيء، ما في السماوات وما على الأرض" (أف 1: 10). "لقد أخضع الله كل شيء تحت قدميه، وأقامه، فوق كل شيء، رأسًا للكنيسة، التي هي جسده وكال من يكتمل في جميع الكائنات" (أف 1: 22- 23). فالكنيسة هي "كمال المسيح"، والمسيح يكتمل بالمسيحيين كمَا أنّ الرأس يكتمل بالأعضاء. وبقدر ما تتسع الكنيسة بأعضاء مجدّدين بالمسيح بقدر ذلك يكتمل المسيح. يقول يوحنا الذهبي الفم: "يكتمل الرأس عندما يصير الجسد كاملاً، عندما نصير كلّنا متحدين ومرتبطين بعضنا ببعض".
ب) الكنيسة "جسد المسيح السرّي"
يدعو بولس الرسول الكنيسة "جسد المسيح". أمّا عبارة "جسد المسيح السرّي"، فقد وردت أوّلاً في كتابات إيسيخيوس الأورشليمي (+ 438) الذي يقول: "نحن أيضاً نصير جسد المسيح بتناولنا جسده السرّي". ويعني بعبارة "الجسد السرّي" القربان المقدّس. فالسرّي هنا نسبة إلى سر الإفخارستيا كمَا في عبارة "العشاء السرّي".
وفي القر التاسع أخذ اللاهوتيون في الغرب يميّزون بين ثلاثة تعابير لحضور المسيح، جسد المسيح المولود من مريم العذراء، وجسد المسيح الحاضر في سرّ الإفخارستيا الذي دعوه على غرار القرون الأولى "الجسد السرّي"، وجسد المسيح، الكنيسة، التي دعوها "الجسد الحقيقي".
وفي القرن الرابع عشر أصدر البابا بونيفاسيوس الثامن براءة في "الكنيسة الواحدة المقدّسة" ودعا فيها الكنيسة "جسد المسيح السرّي"، بينما دعا جسد المسيح الحاضر في سر الإفخارستيا "الجسد الحقيقي". ومن هذا الاستعمال قد بدأ في الغرب كردة فعل على أفكار اللاهوتي "بيرنجيه" الذي كان تعليمه عن حضور المسيح الحقيقي في سر الإفخارستيا ملتبساً ومثيراً للشك. فلتأكيد أنّ المسيح حاضر حضورا حقيقياً في سر الإفخارستيا دعا اللاهوتيون هذا الحضور "الجسد الحقيقي"، بينما أطلقوا على الكنيسة عبارة "جسد المسيح السرّي".
وفي القرن العشرين كانت تسمية الكنيسة "جسد المسيح السَرّي" منتشرة في الكنيسة الكاثوليكية، عندما نشر البابا بيوس الثاني عشر رسالته العامة في "الكنيسة جسد المسيح السرّي"، وفيها يؤكد ثلاثة أمور رئيسة:
أوّلاً، إنّ الكنيسة هي جسد المسيح السرّي. إنّ الكنيسة جسد له رأس هو المسيح، والروح القدس هو الروح الذي يحي هذا الجسد.
ثانياً، إنّ الكنيسة هي، كالمسيح، سر تجسّد. فهي في الوقت نفسه منظورة وغير منظورة. وتشدّد الرسالة على الناحية المنظورة: فالكنيسة هي "جسم واحد وغير منقسم"، "محسوس" و"واقعي".
ثالثاً، إنّ هذا الجسم المنظور هو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فرأي البابا بيوس الثاني عشر أنّ أعضاء الكنيسة، جسد المسيح السرّي، هم فقط الذين ولدوا من جديد بالمعمودية ولم ينفصلوا أو لم تفصلهم السلطة الشرعية عن مجمل الجسد. فجسد المسيح هو إذاً الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وليس سواها.
لكنّ المجمع الفاتيكاني الثاني انفتح على المسيحيين غير الكاثوليكيين. فبعد حديثه عن الكنيسة جسد المسيح السرّي (رقم 7)، ينتقل إلى وجه الكنيسة المنظور، فيقول: "هذه الكنيسة التي أنشئت ونظمت كمجتمع في هذا العالم إثمَا نستمرّ في الكنيسة الكاثوليكية التي يسوسها خليفة بطرس والأساقفة الذين على الشركة معه، وإن تكن عناصر عديدة للتقديس والحقيقة لا تزال قائمة خارج هيكلها العضوي المنظور، وتدفع، من حيث هي مواهب خاصة بكنيسة المسيح، إلى الوحدة الكاثوليكية" (دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 8).
قبولاً صحيحاً هم على الشركة، وإن غير كاملة، مع الكنيسة الكاثوليكية.. لمّا كانوا قد برّروا بالإيمان الذي نالوه في المعمودية، وصاروا به أعضاء لجسد المسيح، فإنهم بحق يحملون الاسم المسيحي، وبحقّ يرى فيهم أبناء الكنيسة الكاثوليكية إخوة في الرّب" (رقم 3).
ج) مَن هم أعضاء جسد المسيح؟
إنّ المعمودية هي التي تجعل الإنسان عضواً في الكنيسة جسد المسيح. فالجسد واحد، والكنيسة واحدة، رغم انقسام المسيحيين إلى كنائس مختلفة، وكلّنا أعضاء في جسد المسيح الواحد، وكلّنا إخوة في أسرة واحدة، ولكنّنا إخوة قد اختلفوا على بعض الحقائق المسيحية وبعض التعابير اللاهوتية، فانفصلوا بعضا عن بعض، ولكن انقساماً لا يجعل البعض منهم أعضاء في جسد المسيح والآخرين خارج هذا الجسد. فكل الذين اعتمدوا هم أعضاء على حد سواء في جسد المسيح، ولكنّهم أعضاء منفصلون بعضهم عن بعض، يتوقون إلى الوحدة الكاملة.
إنّ عبارة "جسد المسيح" هي عبارة كتابية يجب الاحتفاظ بها لأنّها تحمل معنى عميقاً، ولكنّها تشبيه، ولا يمكن أيّ تشبيه، مهمَا كان غنيّاً، أن يفي بسر الكنيسة الكامل. وقد يؤدي التمسّك بهذا التشبيه تمسّكاً مطلقاً وحرفياً إلى الوقوع في مغالطات لاهوتية. فمن يقول مثلاً إنّ الانفصال عن كرسي رومة هو انفصال عن جسد المسيح يعتبر الاتحاد مع كرسي رومة أهمّ من الاتحاد مع المسيح بالمعمودية. ولاجتناب الوقوع في مثل هذا الخطر يجب الاستعانة بالتشبيه الآخر وهو "الكنيسة شعب الله". فجميع المسيحيين هم أعضاء في شعب الله الواحد، ويبقون أبناء الله الواحد وأخوة للمسيح الواحد، ويحييهم الروح الواحد، وإن وضعوا، بانفصالهم بعضا عن بعض، عراقيل بشرية تمنع عمل الله الكامل فيهم.