24 - 01 - 2013, 01:16 PM
|
رقم المشاركة : ( 35 )
|
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس
الفصل الرابع
النعمة في اللاهوت المعاصر
اللاهوت علم يحاول التعبير بكلام بشري عن حقيقة الله وعلاقته بالإنسان. إن الله قد أوحى لنا بذاته بابنه يسوع المسيح. ففي المسيح عرفنا الآب وعرفنا إراته الإلهية في خلاص البشر، وأدركنا العلاقة التي يريد أن يقيمها معنا. إلاّ أنّنا في تعبيرنا عن تلك العلاقة نستخدم كلامًا بشريّاً يخضع لتطوّر البيئة الحضارية التي نعيش فيها وتتعدّد وجوهه. بيد أن هذه التعددية لا تعني أن جميع الطرق التي يعبّر بها الإنسان هي مماثلة من حيث القيمة، فقد نميل إذ إحداها ونرفض غيرها. ولكن يجب إلاّ نحكم على الأجيال السابقة لكونها لجأت إلى طريقة دون أخرى، بل نرى ما فيها من نواح إيجابية تساعدنا على التعبير اليوم عن حقيقة الله التي لا يمكن أيّ عقل بشري أن يدرك غور أبعادها.
فكيف إذن يعبّر اللاهوت اليوم عن مفهوم النعمة؟
1- النعمة حضور الله نفسه
يرى اللاهوت المعاصر أنّ موضوع النعمة لا يمكن أن يعالَج بشكل عرضي إلى جانب سائر المواضيع اللاهوتية، كالله والخلق والتجسّد والكنيسة والأسرار، فالنعمة هي الإطار العام الذي يجب أن تُبحث فيه كل المواضيع اللاهوتية، لأنها في نظره ليست مجرّد مساعدة يمنحنا إيّاها الله من بعيد، بل هي عطاء الله ذات لنا. النعمة هي الله نفسه من حيث يعطي ذاته للإنسان، على مختلف الأصعدة: في الخلق والتجسّد والكنيسة والأسرار. إنّها حضور الله نفسه في الكون وفي الإنسان وفي التاريخ.
ء) النعمة عطاء الله ذاتَه للإنسان
يرى اللاهوتي الألماني كارل راهنر في الإنسان انفتاحاً كيانياً على المطلق، عليه يقوم تسامي الإنسان بالنسبة إلى ذاته وإلى الكون. وداخل هذين الانفتاح والتسامي يرى راهنر في النعمة عطاء الله ذاتَه للإنسان. فالنعمة ليست عطية ثانوية أو مساعدة عابرة تأتينا من الله بشكل سرّي غامض، ولا تلك "الهبة المخلوقة" التي تحدَّث عنها اللاهوت الغربي التقليدي، بل هي عطاء الله ذاتَه لنا، وفيه يدخل كلُّ ما نقوله عن النعمة في الكتاب المقدّس وفي تعاليم الآباء والكنيسة. "فالله قد أحبّنا أوّلاً" (1 يو 4: 10) وخلقنا، ثمّ خلّصنا وجعلنا له أبناء بيسوع المسيح، وأرسل إلينا روحه القدّوس مكث فينا، وأشركنا في طبيعته الإلهية، بحيث نملك منذ الآن، كعربون وبداية، كلّ ما سنحصل عليه من مجد ورؤية لله في الحياة الأبدية.
فالخلق والخلاص والتبنّي وميراث الحياة الأبدية هي إذًا عطاء الله ذاتَه لنا. لذلك لا تقتصر النعمة على المغفرة التي تأتينا من الله بعد أن نخطأ، بل تسبق كل خطيئة، ولا تقتصر على المسيحيين، بل تشمل جميع الناس، لأنّ عطاء ذاته للبشر يسبق حرّيتهم وإدراكهم لذواتهم وكلّ اختياراتهم، ولأنّ محبّته مجانية.
ب- النعمة المقدَّمة والنعمة المقبولة
إنّ عطاء الله ذاتَه هو لكلَّ الناس، أقلّه على صعيد العطاء. ومن هذه الزاوية يميّز راهنر بين النعمة المقدَّمة والنعمة المقبولة. فعطاء الله هو ذاته للجميع، أمّا قبوله فمرتبط بحريّة الإنسان، وهو نفسه نعمة، بمعنى أنّه لا يمكن أن يكون إلاّ جوابًا على عطاء الله ذاته للإنسان. فعطاء الله ذاته للإنسان هو الشرط الأساسي لكل إيمان من قبل الإنسان وكل قبول وكل انفتاح على الله.
"فالنعمة المقدَّمة"، التي تشمل كل ما يعمله الله للبشر من خلق وخلاص وعناية وإلهامات للخير، ويظهر فيها حضوره في العالم، تصير "النعمة المقبولة" عندما يتجاوب معها الإنسان ويقبلها بحريّته. فهذه النعمة المقبولة هي في آنٍ واحد نعمة من الله وعمل حرّ من الإنسان وهنا يكمن اسرّ علاقة الله بالإنسان وسر الحريّة البشرية. لماذا يرفض بعض الناس "النعمة المقدّمة" للجميع في حين يقبلها غيرهم؟ إنّ الحرّية أمر إيجابي، لكنّ استعمالها لرفض الخير أمر سلبي. وبمجرّد حصول الإنسان على تلك الحرّية يحصل على إمكان رفض الخير وتجاهل الله وعطائه. ولكن لا ينبغي أن نتوقّف عند هذا السرّ، بل يجب التشديد على دعوة الله للجميع ليتحرّروا من أنانيتهم التي هي أصل كل رفض وكل شر. وتلك الدعوة هي (النعمة المقدَّمة" التي يحيا فيها الإنسان منذ ولادته حتى موته، في بعديه الفردي والجماعي، وهي الينبوع الحي الذي لا ينضب، داعيًا دومًا العطاش إلى الارتواء منه، وهي، النور الأزلي الذي لا يغرب، داعيًا جميع العائشين في الظلمة إلى الاستنارة به.
إنّ التجاوب مع النعمة مطلوب من الإنسان في مختلف مراحل حياته. ومن ينفتح لله ويقبل عطاءه ومحبّته يمكنه أن يقول مع بولس الرسول: "إنّ نعمة الله لم تكن فيّ عبثًا" (1 كو 15: 10).
ج- تحديد النعمة
من هذه النظرة يمكننا القول إنّ النعمة هي حضور الله حضوراً حيّاً ومحبّاً في كل إنسان وفي الكنيسة وفي تاريخ العالم. ماذا نعني بهذا التحديد للنعمة؟
حضور: هذه الكلمة لا تُستعمل للأشياء إنّما للأشخاص، وتعني علاقة شخصية بينهم. فعلاقتنا مع الله هي إذًا علاقة مع شخص لا مع قوّة مبهمة أو شيء جامد.
الله: أي آب بالابن في الروح القدس فالله الآب قد أوحى لنا بذاته بابنه يسوع لكي يجعلنا أبناء له. والنعمة هي التي تحقق هذا التبني وتجعلنا على صورة يسوع. وعندما نتكلم عن تجاوبنا مع النعمة نعني تحقيق صورة يسوع في حياتنا فنسلك على مثال الابن في المحبّة والطاعة للآب وفي نكران الذات والتضحية في سبيل الآخرين. وهكذا بواسطة الابن نتّحد بالآب فنتمّم إرادته ونحيا معه ونصبح أبناءه. والروح هو الذي يعمل فينا ليحقّق فينا تلك البنوّة الإلهية.
حضورًا حيًّا: النعمة ليست مساعدة تأتينا من قوّة سحريّة خارجة عنّا وتعمل فينا بشكل آلي، إنّها علاقة مع شخص حي.
ومحبًّا: النعمة هي حضور الله المحب الرحوم الحنون الأمين.
في كل إنسان: علاقة الله هي علاقة شخصية مع كل واحد منّا، بحيث يصبح ابنًا لله. في العهد القديم كان الشعب كلّه يُعتبر ابنًا لله. أمّا في العهد الجديد فبواسطة شخص يسوع المسيح ابن الله أصبح كل إنسان بمفرده يُعتبر ابنا لله ومدعوًّا إلى إقامة علاقات شخصيّة مع الله.
وفي الكنيسة: إنّ الكنيسة هي جسد المسيح وسرّ خلاص العالم. فالله حاضر فيها بشكل خاص ولا سيّمَا في الأسرار والصلوات التي تتابع على مدى الزمن حضور يسوع في الزمن.
وفي تاريخ العالم: إنّ الله حاضر ليس فقط في المؤمنين به بل أيضًا في تاريخ العالم بأسره، إذ يعمل فيه بشكل فعّال ليصل به إلى الخلاص الشامل. وهذا هو المفهوم المعاصر الواسع "للعناية الإلهية" التي لا تُعنى فقط بشؤوننا الفردية، بل كذلك بشؤون التاريخ كلّه ليمتلئ من حضور الله.
2- النعمة لقاء بين حرّية الله وحرّية الإنسان
هناك مسألة اصطدم بها اللاهوت منذ القرون الأولى، هي كيفية التوفيق بين نعمة الله التي تسبق كل مبادرة بشرية وترافق كل عمل إنساني وحرّية الإنسان.
فبيلاجيوس وأتباعه يشدّدون على حرّية الإنسان وينتقصون من تأثير الله، بينما يركّز أغوسطينوس وتوما الأكويني ولوثر وجنسينيوس على ضعف الإنسان وفساده للمحافظة على عظمة الله وأوّلية عمله.
ويذهب الملحدون المعاصرون، في انتقادهم للمؤمنين، إلى القول إنّ مجرّد الإيمان بوجود الله هو انتقاص لعظمة الإنسان. فإذا كان الإنسان، كما يقول ماركس، بحاجة إلى إله يمنحه الحياة، فلا قيمة له البتة. فإمّا الله وإمّا الإنسان. والملحدون يختارون الإنسان. أمّا المؤمنون فيرفضون هذا الإحراج ولا يرضون أن يختاروا بين الله والإنسان.
ء) الاختيار الحرّ والحرّية المشروطة
منذ القرن السابع عشر تركّزت الحرّية البشرية واقتصرت على الاختيار فكان معظم اللاهوتيين يحدّدونها بقولهم "إنّها الإمكان الذي يتمتعّ به الإنسان في اختيار عمل أو رفضه، في الاختيار أو عدم الاختيار". وكانت تلك الحرّية تُعتبر مطلقة بحيث يستطيع الإنسان أن يختار ما يشاء، وقد نتجت من العقلانية التي ترفض، كما يقول ديكارت، كل معرفة غير واضحة. أمّا الناحية الوحيدة الواضحة في الحرّية فهي ناحية الاختيار، أن يختار الإنسان هذا العمل أو ذاك. وعليه تبدو الخطيئة اختياراً حرّاً للشرّ.
إلاّ أنّ الفلسفة المعاصرة قد أظهرت أنّ الحرّية الإنسانية ليست حرّية مطلقة بل حرّية محدّدة في الزمان والمكان، تؤثّر فيها عوامل مختلفة وراثية وثقافية وعرقية، ماضية وحاضرة. لذلك لا ينطلق العمل الحر من الصفر وكأنّ الإنسان يمكنه أن يضرب صفحًا عن الماضي وعما حوله ليقوم بعمل حرّ مطلق، بل إنّ كلّ عمل حرّ هو مشروط بأوضاع خاصة يجب أن ندرك كل أبعادها فنبني على الواقع وليس على الوهم الخدّاع.
هكذا في علاقة الإنسان مع الله، لا يبدأ الإنسان من لا شيء، بل إنّ عطاء الله ذاتَه للإنسان يسبق كل ما يستطيع هذا القيام به، وحتى إدراك الله والوصول إليه.
ب) النعمة والحرّية
- لا اختيار بين الله والإنسان: إنّ نعمة الله لا تنافس حرّية الإنسان
يؤكّد بعض اللاهوتيين المعاصرين أنّ نداء الملحدين إلى الاختيار بين الله والإنسان هو نداء خاطئ، لأنّه لا يمكن أن يقوم تنافس بين الاثنين. يؤكّد جان باتيستْ مِيتسْ، اللاهوتي الألماني، في كتابه "لاهوت العالم"، استقلالية العالم والإنسان، فيقول إنّ من طبيعة الله ألاّ يهدم الوجود البشري أو كيان الإنسان، بل أن "يجعله يكون"، و"يصيّره حراً". أمّا سْخونِنبِرغْ، فإنه في كتاب له عن الله والإنسان كتبه باللغة الهولندية سنة 1971، يرفض أيضاً الاختيار بين الله والإنسان ويقول: "في الخلق كما في العهد نرفض الاختيار بين الله والإنسان، ففي كليهما الله وحده هو السبب في تحقيق الإنسان ذاته بحرّية".
أجل، إنّ الله قد خلق الإنسان حرًّا ليصل بملء حرّيته إلى تحقيق كمال ذاته. ولمّا ملكت الخطيئة في العالم، واستُعبد لها الإنسان، أرسل لنا الله يسوع المسيح مخلّصًا ليحرّرنا من عبوديتنا ويعيدنا إلى الحرّية: "إن حرّركم الابن صرتم في الحقيقة أحرارًا".
فلا يقوم الخلاص إذًا على منح الإنسان طبيعة جديدة ليقوم بأعمال "فائقة الطبيعة"، وكأنّما الله يصحّح الطبيعة الإنسانية التي خلقها وينظّم الوجود الإنساني تنظيمًا جديدًا ليجعل منه وجودًا آخر. فالأمر الوحيد الذي يجب تغييره هو استعباد الإنسان للخطيئة. فنحن بحاجة إلى تغيير أنفسنا لنحيا في الحرّية الحقيقية التي خلقنا لأجلها، وليس الله هو بحاجة إلى تغيير خليقته.
ونعود فنقول إنّ الحرّية لا تقوم على إمكان الاختيار بين أمرين، بل على إمكان تحقيق الإنسان ذاته والوصل إلى كمال كيانه. وما هو الإنسان؟ إنّه كائن مرتبط بالكون وبالآخرين وبالله. فالإنسان الحرّ هو الذي يحقق في ذاته كلّ تلك العلائق مع الكون ومع الآخرين ومع الله. فالحرّية هي إذًا هدف يسعى إليه الإنسان.
صفتان في الله تبدوان متناقضتين، تساميه وحضوره في خلائقه. فالله هو أوّلاً المتسامي المتعالي، إنّه الله "تعالى"، وقد يخيّل إلينا أنّ هذا التسامي هو الذي يجعل الله بعيدًا عن الإنسان، إلاّ أنّه لا يناقض حضوره في خلائقه، بل على خلاف ذلك يكن في حضوره ومن ثمّة لا تعود النعمة مساعدة تأتينا من الخارج، من بعيد، من أعالي السماء، بل تتجلّى قوّة تنبع من أعماق ذواتنا، لأن الله هو في عمق ذواتنا.
والتأله، لا يناقض التأنسن، أي أن يصبح الإنسان إلهًا (وتلك هي غاية النعمة) وبالتالي إنساناً كاملاً. والنعمة التي هي حضور الله في الإنسان حضوراً حيًا لتجعل منه ابن الله لا تهدف إلى تغيير طبيعته الإنسانية بل إلى جعلها ما يجب أن تكون عليه وما خُلقت لأجله، أي طبيعة إنسانية نقيّة محرّرة من كل ما يشوّهها. فهذا هو الخلاص الذي جاءنا به المسيح: أن يجعل الإنسان صافيًا منقّى من كل ما هو غريب عن إنسانيّته، كالذهب الخالص الذي ينقّى من كل الشوائب والأقذار. وهذا هو أيضاً قوام الحرّية. فلا تناقض إذًا بين النعمة والحرّية. فالنعمة هي التي تجعل الإنسان يصل إلى ملء حرّيته.
النعمة تحرير الحرّية
بنظرة مماثلة يحدّد الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي هنري دوميري حرّية الإنسان، ويرى في النعمة تحرير الحرّية.
|
|
|
|