رابعاً- النعمة المقدِّسة والنعمة الحاليّة
هناك تمييز تقليدي في اللاهوت الغربي بين النعمة المقدِّسة والنعمة الحالية. ما معنى هاتين اللفظتين؟ إن التبني والولادة الجديدة بالمعموديّة واشتراك المؤمن المبرَّر بالطبيعة الإلهية وسكنى لروح المقدس في نفسه، كلّ هذه الأمور التي تكلّمنا عنها في الفصول السابقة هي طرق مختلفة للتعبير عن الحقيقة نفسها: وتلك الحقيقة هي أن الإنسان الخاطئ يصبح مبرِّراً، ينتقل من حالة الخطيئة إلى حالة البر تلك الحالةَ الجديدة تدعى أيضاً "حالة النعمة". أمّا النعمة التي يحصل عليها الإنسان بانتقاله إلى تلك الحالة الجديدة فتدعى "النعمة المقدِّسة"، لأنها هي التي تقدّس الإنسان وتبرّره.
تلك النعمة هي "موهبة مخلوقة"، وبهذا تتميّز عن "الموهبة غير المخلوقة"، التي هي الروح القدس نفسه الذي يهبه الآب بالابن. تلك النعمة ليست موهبة عابرة، بل حقيقة ثابتة، "طبيعة" جديدة: كما أن الطبيعة الإنسانيّة هي مبدأ أعمال الإنسان الاعتياديّة لطبيعيّة، كذلك النعمة المقدِّسة هي مبدأ أعمال الإنسان الفائقة الطبيعة.
النعمة المقدّسة هي نتيجة لحضور الروح القدس في النفس. وقد ركّز آباء الكنيسة على هذا الحضور، انطلاقا من العهد الجديد ولا سيما من يوحنا وبولس.
النتيجة الأولى للنعمة المقدّسة هي "الاشتراك في الطبيعة الإلهية". هذا الاشتراك لا يقوم فقط على التشبّه بالله بتتميم الفضائل (اشتراك ادبيي)، ولا هو اندماج حلوليّ مع الله، بحيث يزول كلّ فرق بين الإنسان والله. إن المفهوم الكاثوليكيّ لهذا الاشتراك هو حلّ وسط بين هذين المفهومين المتطرّفين. إن الله يرفع الطبيعة الإنسانيّة إلى درجة سامية يدعوها الآباء وهذا التألّه يصبح في الإنسان مبدأ أعمال صالحة، دون أن يزيل الفرق بين الإنسان والله.
النتيجة الثانية للنعمة المقدَسة هي "التبنّي": فبالنعمة يصبح الإنسان ابن الله بالتبنّي.
النعمة الحالية هي المساعدة العابرة التي يرسلها الله للإنسان الغير المبرّر لينير عقله ويلهم إرادته ويوصله إلى البرّ، وللإنسان المبرّر ليثبّته في طريق البرّ وفي حالة النعمة.
إن عبارة "النعمة الحالية" لا نجد لها أيّ أثر في كتابات الآباء ولا في القرون الوسطى قبل القرن السادس عشر. وقد استعملت للإجابة على سؤال عمليّ: كيف نعبّر عن النعمة التي ينالها الإنسان قبل تبريره؟ بما انه لا يحصل على النعمة المقدِّسة إلا بالمعموديّة والتبرير، فلا بدّ من وجود نعم أخرى يمنحها الله للإنسان ليقوده إلى الارتداد وبالتالي إلى قبول النعمة المقدِّسة. وتلك النعم دعاها اللاهوتيون "النعم الحاليّة".
وتلك النعم الحاليّة هي إمّا إلهامات مباشرة من قبل الله وإمّا مساعدات يرسلها الله بواسطة البشر، كسماع المواعظ وقراءة الكتب المقدّسة، والأمثلة الصالحة، وإرشادات الأصدقاء.
كيف ينظر اللاهوت المعاصر إلى هذا التمييز بين النعمة المقدّسة والنعمة الحاليّة وإلى مفهوم النعمة بنوع عام؟