ثانياً: آباء الكنيسة اللاتينية
يرى آباء الكنيسة اللاتينيّة في النعمة حافزاً داخلياً به يقود الله الإنسان ويساعده على عمل الخير وعلى السير بثبات نحو الحياة الأبدية. وقد أكّدوا دور الروح القدس الذي يعمل في داخل الإنسان ليسير به على طريق القداسة. في هذا المعنىّ يقول ترتوليانوس إن النعمة هي "قوة إلهية".
فبينما يشدّد الآباء الشرقيّون على تحوّل كيان الإنسان الذي يتألّه ويصبح بالنعمة ابن الله، يركّز اللاتينيّون على دور النعمة في عمل الإنسان: فتشفيه من ميوله وشهواته المنحرفة وتساعده على تتميم وصايا الله.
أ) القديس أوغسطينوس
لقد كان للقديس أوغسطينوس تأثير حاسم على لاهوت النعمة في الغرب حتى يومنا هذا. لذلك لا بدّ من التعمّق في أفكاره في هذا الموضوع.
تتميّز نظرته إلى النعمة بالتشديد على مجانيّة هبة الله:
1- فالإنسان، بسبب سقطة الخطيئة الأصلية، هو عبد للشهوة والخطيئة، ولا يملك في ذاته الِحرّية والقدرة ليحب الخير ويتمّمه. فالحرّية تقوم على محبة الخير وعلى توجيه كل عمل يقوم به الإنسان نحو الحياة مع الله.
2- إلاّ أن نعمة المسيح تبرّر الإنسان الساقط، وتعيد إليه الحريّة وتضع في قلبه محبة الخير وتساعده على تتميم وصايا الله. فالتبرير هو عمل الله الذي يهدي الخاطئ إلى طريق البر، فيحرّره تدريجياً من الشهوة ويملأه من المحبة.
3- إن الإيمان الذي به يقبل الإنسان رسالة المسيح هو أيضاً نعمة من الله.
4- بالمعموديّة يولد الإنسان من جديد ويصبح عضواً في جسد المسيح وابناً لله وهيكلاً للروح القدس. في هذا يتفق أوغسطينوس مع آباء الكنيسة اليونانيّة.
5- التبرير يتضمّن موهبة الروح القدس غير الخلوقة وموهبة المحبة الخلوقة. فالنعمة في كتابات أوغسطينوس هي تارة الروح القدس نفسه وتارة نتيجة حضوره أي موهبة المحبة التي تساعد الإنسان على تتميم إرادة الله.
6- إن النعمة لا تعطي فقط الإنسان إمكانيّة عمل الخير والقدرة على عملِ الخير، بل إن كل عمل صالح وخلاصيّ يقوم به الإنسان هو من فعل النعمة. فالنعمة إذاً في هذه النظرة هي المساعدات المستمرّة التي يمنحها الله للإنسان ليتمّم بملء رضاه أعمال البرّ والصلاح.
7- إن الإنسان الذي يقبل نعمة الله ويعمل أعمال البرّ يستحقّ الحياة الأبديّة، إلاّ أن الخلاص الأبديّ لا ينتج عن استحقاقات الإنسان بل هو موهبة من الله لا يستطيع الإنسان الحصول عليها إلاّ بالصلاة.
8- التحديد السابق من قبل الله لخلاص بعض الناس: إستناداً إلى رو 8: 29 "إن الذين سبق فعرفهم، سبق أيضاً أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه"، يرى أوغسطينوس أنّ الله يعرف منذ الأزل ويحدّد الأشخاص الذين سيخلصون. فهؤلاء ينالون من الله موهبة الثبات في النعمة. أمّا الذين يهلكون فيهلكون بحرّيتهم، إلاّ أنهم لم ينالوا نعمة الثبات. فالله يختار بعض الناس ويمنحهم نعمة خاصّة، مع أنه يدعو الجميع إلى الخلاص.
لا يمكننا اليوم قبول نظرية أوغسطينوس هذه. فالله لا يميّز بين أبنائه بالنسبة إلى الخلاص. بل يمنحهم جميعاً النعمة الكافية لكي يصلوا إلى الحياة الأبديّة. والنعمة التي تعطى للجميع، تبقى نعمة، وإن أعطيت للجميع. أمّا أوغسطينوس فيعتبر أن النعمة لا تكون نعمة إذا أعطيت لجميع الناس.
كذلك لا يعطي أوغسطينوس لحريّة الإنسان الأهميّة التي يجب إعطاؤها. وكأنه لا يرى قدرة الإنسان على رفض النعمة.
ب) بيلاجيوس ومجمع قرطاجة
1- بيلاجيوس راهب إيرلندي الأصل عاش في رومة حوالي سنة 400، ثم انتقل إلى شماليّ إفريقيا ثم إلى أورشليم.
يمكننا إيجاز تعليمه في النعمة في العبارة التالية: ان الإنسان يستطيع تتميم وصايا الله بقواه الذاتيّة، ولا حاجة له إلى مساعدة إلهيّة لا لإرادة الخير ولا لتتميمه.
يميّز بيلاجيوس في الإنسان ثلاثة أمور: القدرة والإرادة والكيان. فالقدرة على عمل الخير، أي الحريّة، هي "النعمة" التي وهبها الله للإنسان. أما إرادة عمل الخير وتنفيذ هذا العمل في كيان الإنسان فيعودان إلى الإنسان فقط. إلاّ أن الله يساعد الإرادة بمساعدات خارجيّة: تعاليم الكتاب المقدّس، موعد الخيرات الآتية في الحياة الأبديّة، التحذير من فخاخ الشيطان. ولكن بيلاجيوس يرفض أيّ وجود لمساعدات داخليّة يمنحها الله للإنسان، وذلك لسببين: 1) لأن الإنسان ليس بحاجة إليها، فحريّته تكفي لذلك، 2) لأنّ الله لا يمكن أن يكون عنده "محاباة وجوه" لتفضيل إنسان على آخر.
2- مجمع قرطاجة (411) حرم تعاليم بيلاجيوس في البنود التالية:
البند 3. لا تقتصر نعمة التبرير على مغفرة الخطايا التي ارتكبها الإنسان، بل هي أيضاً مساعدة لكي لا يخطأ الإنسان.
البند 4. ان نعمة المسيح التي تساعدنا على الابتعاد عن الخطيئة لا تمنحنا فقط معرفة الخير والشر، بل نهبنا أيضا محبة الخير والقدرة على تتميمه.
البند 5. إن النعمة لا تمنح فقط سهولة أكثر، بل بدونها لا نستطيع أن نتمم وصايا الله.
البنود 6، 7، 8. لا يستطيع أي من القديسين أن يجتنب الخطيئة. وعندما يقولون "اغفر لنا خطايانا" يقولون ذلك عن حقّ وليس عن تواضع.
ج) البيلاجية المعتدلة:
نشأت في بعض أديرة للرهبان في مرسيلية. وكانت ردة فعل -ضرورية ولكن متطرّفة- ضد تعاليم أوغسطينوس في التحديد السابق والنعمة الكافية التي لا بدّ منها للخلاص. فأكّدوا أن الله يريد خلاص جميع الناس، إلاّ أنّه يمنحهم نعمه على قدر طلبهم. إن الله يعرف من هم الذين سيخلصون، إلاّ أنه لا يميّز بين شخص وآخر، بل يحبّهم جميعا دون تفرقة. إنما ينتظر من قبل الإنسان إبداء الرغبة في الحصول على نعمة الإيمان وطلب تلك النعمة. فبداية الإيمان ليست من عمل النعمة بل من عمل الإنسان.
كذلك يعتبرون أن الخلاص الأبديّ ليس نعمة خاصة من الله، بل هو ناتج عن استحقاقات الإنسان.
د) مجمع اورانج (529) شدَّد على أمرين: الله هو مصدر كل إيمان وخلاص، ولا يستطيع الإنسان أن يقوم بأي عمل خلاصي دون النعمة.
- فالنعمة تسبق كل جهد بشريّ، وهي مصدر كل صلاة ورغبة صالحة وكل عمل خلاصيّ ولا يستطيع إنسان أن يصل إلى الإيمان من دونها.
- ثم إن النعمة ضروريّة للثبات في الإيمان وتتميم الوصايا والنموّ في الحياة المسيحيّة.
- أما بالنسبة لتحديد الله السابق للمخلّصين، فقد أعلن الجميع أنه لا تحديد سابق من قبل الله للهالكين. فجميع من اعتمدوا يمنحهم الله النعمة الكافية للخلاص، إن هم ارادوا وتجاوبوا مع تلك النعمة.