24 - 01 - 2013, 01:09 PM
|
رقم المشاركة : ( 27 )
|
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس
الفصل الأول
النعمة في الكتاب المقدس
إنّ أيّ بحث في المواضيع اللاهوتيّة يجب أن ينطلق من الكتاب المقدّس. ففيه أوحى الله بذاته وبقصده الأزليّ في ما يختصّ بالإنسان. وفيه عبّر شعب العهد القديم تم الرسل والمسيحيّون الأوّلون عن إيمانهم بالله وبالعلائق التي يريد إنشاءها مع البشر.
القسم الأول: العهد القديم
إن المسيح هو "كمال الناموس والأنبياء"، وفيه "حصلنا على النعمة والحق"، وتحقّق رجاء العهد القديم. ماذا كان يرجو العهد القديم، وكيف عبّر عن علاقة الله بالإنسان؟ هذا ما سنحاول توضيحه انطلاقاً من الألفاظ والرموز التي استعملها العهد القديم للتعبير عن مفهوم النعمة.
أولاً: الألفاظ المستعملة للتعبير عن النعمة
إن أسفار العهد الجديد قد كتبت باليونانية. إلاّ أن اللغة التي استخدموها قد تأثّرت كثيراً بالترجمة اليونانيّة للعهد القديم المعروفة "بالترجمة السبعينيّة"، التي تعود إلى القرن الثالث قبل المسيح. لذلك لا يمكننا فهم الألفاظ المستعملة في العهد الجديد إن لم نرجع إلى أصلها السامي الغبريّ كما ورد في أسفار العهد القديم.
ء) الألفاظ التي تعبّر عن محبّة الله ورحمته
1- حِينّ
معناها في اللغة العبرّية واستعمالها في العهد القديم:
تعني هذه الكلمة: الحسن والجمال الذي يجده إنسان في شخص آخر، ثم الحظوة والنعمة. فيقال مثلاً "لقي حظوة في عيني فلان".
وهذه الكلمة مشتقّة من فعل (حنان) الذي يعني "انحنى بنظره على" ومن ثم "تحنّن على" ثم تفضّل، منّ على، أحسن إلى، أنعم على، وهب، أعطى.
عندما تستعمل هذه اللفظة للتعبير عن موقف الله من الإنسان، تعني أنّ الله ينحني على الإنسان ويتحنّن عليه، فينال الإنسان حظوة لدى الله، مثل نوح وموسى (تك 6: 8؛ 33: 10؛ خر 33: 12).
وموقف الله هذا عطية مجانيّة من قبله، كما يقول في سفر الخروج "أتحنّن على من أتحنّن وأرحم من أرحم" (33: 19). إلاّ أن عمل الخير يجلب حنان الله، كما يقول النبيّ عاموس: "أبغضوا الشر وأحبّوا الخير، وأقيموا الحكم في الباب، فعسى الرب إله الجنود يحنن على بقية يوسف" (5: 15).
ونجد مراراً هذه اللفظة مقترنة بلفظة "رحوم" في العبارة التالية "" (رحوم وحنون): "الرب إله رحوم وحنون، طويل الأناة كثيرة المراحم والوفاء" (خر 34: 6).
* ترجمة هذه اللفظة إلى اليونانية وسائر اللغات
- لقد ترجمت السبعينية هذه اللفظة بكلمة، التي تعني في اليونانية العامّة حسن الجمال، والحظوة عند الناس (الاصل يعني اللمعان، ومنه الفرح)، وفي اللغة الدينيّة تعني الحظوة عند الله.
- أمّا كلمة نعمة في العربية فمشتقة من فعل نَعِمَ أي رَفَهَ. فيقال نَعِمَ عيشه أي طاب ولان واتّسع. و"نَعِمْتُ بهذا عيناً" أي سررت به وفرحت. وأنعم الله النعمة عليه أي أوصلها إليه. وفي العبريّة كلمة مشابهة في الأصل وهي (نُعَم) وتعني أيضاً الحسن والسرور واللطف والفضل، وقد جاءت في المزمور 89: 17 "ولتكن نعمة الرب إلهنا علينا، وعملَ أيدينا وفّقْ لنا". وقد ترجمتها السبعينية بكلمة أي "بهاء".
- الترجمة اللاتينية استعملت كلمة gratia ومنها أتت كلمة grace الفرنسية.
2- (حيسيد)
تعني هذه الكلمة: الصلاح والرأفة والنعمة، وتتضمّن دوماً معنى الأمانة في محبة الله لشعبه. لذلك ترتبط مراراً بالعهد، كما يقول أشعيا: "إن الجبال تزول والتلال تتزعزع، أمّا رأفتي فلا تزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمكِ الرب" (54، 10)، "إنّي أعاهدكم عهداً أبديّاً على مراحم داود الأمينة" (55: 3؛ راجع أيضاً 54: 8؛ مز 50: 1).
وتدل على ذلك اللازمة التي تعود بعد كل آية من المزمور 136 "فإنّ إلى الأبد رحمته".
وهذه الأمانة نفسها يطلبها الله من الإنسان، كما في النبيّ هوشع: "ليس في الأرض حقّ ولا رحمة ولا معرفة الله" (4: 1)، "إنّي أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من المحرقات" (6: 6).
نشير إلى وجود فرقة من اليهود تدعى "حسّيديم"، أي الأتقياء الأمناء، أسّسها في أوكرانية وبولندة رابي بعلشيم طوف (1699- 1760). ثم انتشرت في أنحاء أوروبة الشرقية وانتقلت إلى أوروبة الغربية، وبعد الاضطهاد النازيّ إلى الولايات المتّحدة.
السبعينية ترجمت هذه الكلمة بلفظة، واللاتينية misericordia ومنها أتت كلمة misericorde الفرنسية.
العربية ترجمتها بلفظة "رحمة" أو "رأفة". إلاّ أنّ هاتين اللفظتين لا تؤدّيان جميع معاني الكلمة العبرية.
3- (ريحيم)
تعني في الأصل رحم المرأة وأحشاءها، مركز العطف والرحمة. تشير هذه الكلمة إلى الشعور والتأثّر في التعبير عن الحبّ، ولا سيّمَا بين الوالدين والأولاد وبين الأخوة والأخوات.
السبعينية ترجمت هذه العبارة بلفظة وأحياناً بلفظة
اللاتينية ترجمتها بلفظة misericordia والفرنسية بلفظة pitie
العربية تؤدّيها أحياناً بلفظة "رحمة"، وأحياناً أخرى بلفظة "رأفة". ولفظة رحمة أقرب إلى الكلمة العبريّة. إلاّ أنّ "الرأفة" أقرب إلى المعنى. لأنّ فعل "رئف به" يعني، حسب القاموس، "رحمه أشدّ رحمة" (المنجد).
إنّ هذه الكلمات قريبة بمعناها، تدلّ كلّها على محبة الله ورحمته وعطفه ونعمته، ولا سيّمَا تجاه الفقراء والضعفاء والخطأة.
ب) ألفاظ أخرى متّصلة برحمة الله
1- (إيمت)
تعني الأمانة الثبات في العلاقة بين الأشخاص، والحقّ والصدق. وقد ترجمتها السبعينية بلفظة التي تعني "غير الخفيّ" أي الحق، من الناحية الفلسفية. فبينما تركّز اليونانية على الناحية الفكرّية والعقليّة، تشير العبريّة إلى العلاقات بين الأشخاص. وتلك العلاقات هي علاقات حقّ وأمانة.
فالله أمين في مواعيده: "إعلم أنّ الربّ إلهك هو الله الإله الأمين، يحفظ العهد والرحمة لمحبّيه وحافظي وصاياه إلى ألف جيل" (تث 7: 9).
وترتبط هذه اللفظة مراراً بلفظة (حيسيد= رحمة) للدلالة على أن رحمة الله هي أمينة ثابتة إلى الأبد:
- "الرحمة والحق" تلاقيا، العدل والسلام تلاثما" (مز 84: 11).
- "وأمّا النعمة والحق فبيسوع المسيح قد حصلا" (يو 1: 17).
2- (مشباط)
تعني العدل (تصيدق) أي الصدق والبرّ. الكلمة الأولى تعني عدل الله وحكمه لإحلال السلام وتثبيت النظام. والكلمة الثانية تعني الالتزام بالنظام أو بالعهد أو بالشريعة.
ترتكز هاتان اللفظتان على فكرة العهد المأخوذة من الحضارات المجاورة للشعب اليهوديّ. فنجدها مثلاً في حضارة الحثّيّين (سكان شمالي سوريا وأواسط تركيا). فكان الملك يقوم بمعاهدة مع قبيلة عائشة على حدود مملكته. وتتضمّن تلك المعاهدة بعض الأحكام والشرائع التي يجب اتّباعها. ومن يخالفها يقع تحت العقاب الشديد. ويتعهّد الملك من جهته بالأمانة والحماية. وقد اتبعت العهود بين الله وإبراهيم وموسى المنهج نفسه. فمن جهة يلتزم الشعب بإتباع وصايا الله وشرائعه، ومن جهة أخرى يعد الله الشعب بأن يكون معه ويحميه وينصره على أعدائه.
لذلك لعبت الشريعة دوراً كبيراً وكان لها شأن هام في حياة الشعب اليهوديّ الدينيّة. فالإنسان الصدّيق هو الذي يحفظ بدقّة أحكام الشريعة.
اليونانيّة ترجمت هذه الكلمة بلفظة، وتعني المحافظة على قوانين المدينة وعوائدها. وهذه من علامات الحضارة. أمّا الشعوب البربريّة فليس لها أنظمة وقوانين تتبعها.
3- (عزّ)= العزّة، القوّة، القدرة
إنّ لفظة باليونانيّة تعني مبدأ الحياة في الكون. فيرى اليونان في الكون قوة سريّة تسيّره. والسحرة هم الذين يعرفون أسرار تلك القوة ويستخدمونها.
أمّا الشعب اليهوديّ فيرى القدرة في شخص الله الحيّ. فإله إسرائيل هو إله التاريخ، وهو الذي بقدرته، دون أيّ استحقاق ولا تدخل سحريّ من قبل الشعب، قاد شعبه من مصر إلى أرض إسرائيل. وتردّد المزامير إيمان الشعب بقوة الله:
"الله معتصم لنا وعزّة، وقد وجدناه نصرة عظيمة في المضايق" (مز 45: 1- 2). "هب لعبدك قوّة منك وخلّص ابن أمتك" (مز 85: 16).
ولفظة قوّة تستعمل في التمجيدات: "لأن لك القدرة والمجد إلى الأبد".
وهذه القدرة الإلهية هي التي يراها العهد القديم في المسيح المنتظر. فإنّه سيأتي بقوة. إنه "الجبّار" (أشعيا 9: 6)، الذي يستقرّ عليه روح القوّة (أشعيا 11: 2) لإعادة بناء مملكة داود. وهو الذي سيرعى شعبه بعزّة الرب (ميخا 5: 4). كذلك تستعمل هذه اللفظة في المزمور الملكيّ الذي يتنبأ عن المسيح: "قال الربّ لربيّ: اجلس عن يميني.. عصا قوة يرسل لك الرب من صهيون. سُدْ فيما بين أعدائك" (مز 109: 2).
ويستعمل العهد القديم أكثر من مئتي مرة عبارة "يمين الله" للدلالة على قدرة الله التي يظهر عملها في العالم وفي التاريخ. وتقترن اليمين أو الذراع بلفظة القدرة، فنرى مراراً عبارة "ذراع القدرة" (مز 89: 10، 12؛ اش 62: 8). وسنجد تلك العبارة في لوقا 1: 51 "بسط قدرة ساعده".
لا ينظر العهد، القديم إلى قدرة الله كإلى صفة لله في ذاته بقدر ما يرى فيها وصفاً لعمل الله في الخلق والكون والتاريخ، لا سيّمَا في علاقته مع شعبه. وتلك القدرة هي تعبير رمزيّ لحضور الله الدائم في وسط شعبه. وهذا سيساعدنا على فهم معنى النعمة في العهد الجديد وفي اللاهوت.
4- (رُوَح)
تعني هذه اللفظة الهواء والريح. وتستعمل للدلالة على النَفَس ونَفْحَة الفم. وتشير عندئذٍ إلى قدرة الله: "بكلمة الرب صنعت السماوات، وبروح فيه كل جنودها" (مز 32: 6).
وتطوّرت هذه اللفظة لتعني شخصاً، فالروح هو مصدر قوة الله (تك 1: 2؛ أي 33: 4). والروح هو قوّة الله العاملة في الكون. فالله حاضر في الكون بروحه الذي يملأ كلّ شيء، كما يقول المزمور 138، 7 "أين أذهب من روحك وأين أفرّ من وجهك".
وروح الله هو الذي يرسله الله إلى الأنبياء (حز 2: 2؛ 3: 24).
والروح سيحلّ بشكل خاصّ على المسيح (اش 11: 1- 6، 42: 1- 5).
وكذلك سيكون الروح عطيّة الله للشعب الماسيويّ برمّته (أع 2: 17- 23؛ يؤ 2: 24؛ حز 11: 9؛ 36: 25- 28؛ 37: 1- 14).
فالروح هو تعبير لحضور الله ولعمله في العالم. فهو الذي يخلق وهو الذي يحيي، وهو الذي يجدّد حياة الأفراد والجماعات.
وروح الإنسان هو أيضاً عطيّة من الله. فالجسد ليس إلاّ تراباً من دون الروح. وعند الموت "يعود التراب إلى الأرض حيث كان، ويعود الروح إلى الله الذي وهبه" (جا 12: 17).
ثانياً- بعض الرموز المستعملة في العهد القديم للتعبير عن علاقة الله بالإنسان
1- رمز الزواج
لقد اختار الله شعبه كما يختار الرجل امرأته. وكل خيانة لوصايا الله تُعتبر خيانة زوجية، أي زنى تجاه الله. نجد هذا الرمز في الأنبياء، ولاسيّمَا في نبؤة هوشع (راجع خصوصاً الفصل 2، ثم ار 2: 2؛ حز 16: 23؛ اش 50: 1؛ 54: 6؛ 62: 4- 5). وسيعود هذا الرمز في رسائل بولس (اف 5: 21- 33) وفي رؤيا القديس يوحنا (21: 2).
2- رمز الأب
لا بدّ من الإشارة أولاً إلى أنّ لفظة "ابن" تعني في العهد القديم مختلف أنواع القرابة. "بني اسرائيل" عبارة تعني الشعب الاسرائيلي، "ابن البشر" ابم الإنسان" تعني أولاً "الإنسان".
"ابن الله" هو أوّلاً لقب الملك. وهي عبارة نجدها أيضاً في الديانات البابليّة والمصرّية. فالملك يتمتعّ بعلاقة خاصة مع الله.
إلاّ أنّ هذه العبارة تستعمل أيضاً للدلالة على الشعب الإسرائيليّ بمجمله، لتشير إلى ما يتمتعّ به هذا الشعب من حظوة وعناية لدى الله. فالشعب الإسرائيليّ هو "الابن البكر" لله (خر 4: 22- 23، ار 31: 9). كذلك نرى أن جميع أبناء وبنات الشعب الإسرائيلي هم أولاد الله. فقد ولدتهم أورشليم "عروس الله" (حز 16: 20)، وإسرائيل (هو 2: 4).
غير أن هذه العلاقة ليست علاقة حبّ بقدر ما هي علاقة طاعة وأمانة وخدمة.
الله هو أب إسرائيل. فقد ولدهم جميعاً (عد 11: 11- 12)؛ تث 32: 6). وأبوّته هي رمز لحبّه ورحمته لهم (تث 32: 9- 13).
وعلى الرغم من السبي إلى بابل، لم يفقد الشعب إيمانه بأبوّة الله ومحبته له. بل على العكس من ذلك، فقد ازداد هذا الإيمان، حتى إننا نجد في أشعيا الثالث عبارات تهيّئ الصلاة الربية (63: 16، 64: 8).
3- رمز الراعي
كان الشعب الإسرائيليّ يعيش في أوائل تاريخه من رعاية المواشي. وقد اتّخذ رموزه من أطر حياته. فرأى الشعب في الله الراعي الذي يقوده بعناية ومحبة (مز 22: "الرب يرعاني فلا شيء يعوزني.."؟ مز 78: 13؛ حز 34: 31؛ اش 40: 10- 11).
4- رمز الطبيب الشافي
إن المرض يرتبط بالخطيئة، في عقليّة العهد القديم ("من خطئ، هذا الرجل أم أبواه، حتى ولد أعمى؟" يو 9: 2). لذلك يرى الشعب في الله إلهاً يغفر الخطايا ويشفي أمراض الجسد (عد 12: 13؛ 4 ملو 20: 5- 8، هو 6: 1- 3؛ 7: 1؛ 11: 3، ار 3: 22؛ 17: 14).
لذلك فإن التوبة والندامة ضروريّتان لحصول الشعب على الغفران والشفاء. فالمهمّ إذاً إعادة علائق الصداقة والأمانة بين الشعب والله. وتلك الحالة هي التي تنعش الإنسان جسداً ونفساً.
5- رمز الكرمة
الكرمة تتطلّب عناية كبيرة واهتماماً دائماً (1 ش 5: 2- 7). فكما يعتني الإنسان بكرمه، هكذا يعتني الله بشعبه. وهذا التشبيه سيستخدمه المسيح في حديثه عن علاقة تلاميذه به "أنا الكرمة وأنتم الأغصان وأبي الكرّام" (يو 15: 1- 8).
6- رمز محبّة الأمّ لأولادها
رأينا أن كلمة رحمة مشتقّة من "رحم" المرأة. فالله يحب شعبه كما تحب المرأة (أش 49: 4 1- 15؛ 63: 13).
ثالثاً- لاهوت النعمة في العهد القديم
لقد رأى العهد القديم أنّه يستحيل على الإنسان الوصول إلى معرفة الله في ذاته، إذ لا يمكن الإنسان أن يرى الله ويبقى حيًّا، كما يقول الله لموسى (خر 33: 11- 23؛ عد 12: 10- 8). "لكنه يستطيع اختبار عمل الله في الكون وإدراك قصده في علاقته بالإنسان. فالله قد اختار شعبه ودعاه وصنع معه عهداً وقدّسه ومجّده.
1- قصد الله
إنّ قصد الله يتجلى في العهد القديم في الأحداث الهامّة التي ترويها الأسفار المقدّسة: كدعوة إبراهيم ووعد الله بأن يعطيه نسلاً وأرضاً، ودعوة موسى ومساعدته على إخراج الشعب من مصر، ومنحه إيّاه الشريعة في سيناء، والوصول بالشعب إلى أرض الميعاد. كما حلى أيضاً في كلام الأنبياء الذي يفسّر معنى الأحداث، ويوضح سير التاريخ. فالأمم كلها مدعوّة إلى الخلاص، حسب قول أشعيا:
"ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يوطّد في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه جميع الأمم. وينطلق شعوب كثيرون ويقولون: هلمّوا نصعد إلى جبل، وهو يعلّمنا طرقه فنسلك في سبله" (اش 2: 20- 3).
وفي آخر الأزمنة سينشى الرب ملكا أبديّا، حسب نبؤة دانيال:
"وفي أيّام هؤلاء الملوك، يقيم إله السماء مملكة لا تنقض إلى الأبد، وملكه لا يترك لشعب آخر، فتسحق وتفني جميع تلك الممالك، وهي تثبت إلى الأبد" (2: 44). وابن الإنسان هو الذي سيعطى الملك: "ورأيت في رؤى الليل، فإذا بمثل ابن البشر آتياً على سحاب السماء، فبلغ إلى القديم الأيّام وقرّب إلى أمامه، وأوتي سلطاناً ومجداً وملكاً. فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه، وسلطانه سلطان أبديّ لا يزول، وملكه لا ينقرض" (دا 7: 13- 14).
2- الدعوة والاختيار والعهد
تعبّر تلك الألفاظ الثلاثة عن المرحلة الأولى من تحقيق قصد الله. فالله، بمبادرة مجّانيّة منه، يختار شعباً ويدعوه إلى مصير مختلف عن مصير سائر الشعوب. ولا فضل للشعب في هذا الاختيار الإلهي:
"إنك شعب مقدّس للرب إلهك، وإيّاك اصطفي الرب إلهُك أن تكون له أمّة خاصّة من جميع الأمم التي على وجه الأرض. لا لأنكم أكثر من جميع الشعوب لزمكم الرب واصطفاكم، فإنّما أنتم أقلّ من جميع الشعوب، لكن لمحبة الرب لكم ومحافظته على اليمين التي أقسم بها لآبائكم أخرجكم الرب بيد قديرة وفداكم من دار العبودية من يدي فرعون ملك مصر. فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين، يحفظ العهد والرحمة لمحبّيه وحافظي وصاياه إلى ألف جيل" (تث 7: 6- 9، راجع أيضا 9: 4- 6).
إنِّ الله يبقى أميناً لاختياره. وهذا ما يعنيه العهد الذي يمكن ايجازه في العبارة التالية: أنتم تكونون لي شعباٍ، وأنا أكون لكم إلهاً". وهذا العهد قد أبرمه الله أوّلاً مع نوح (تك 9: 9- 17)، تم مع إبراهيم (تك 15: 1- 14)، ثم مع موسى على جبل سيناء، حيث تكرّس العهد بدم الذبائح: "هذا هو دم العهد الذي عاهدكم به الربّ على جميع هذه الأقوال" (خر 24: 8). إلاّ أن الشعب لم يحفظ وصايا الله. وقد رأى الأنبياء في المصائب التي حلّت بإسرائيل قصاصاً من الله على خيانته إيّاه. لكن رحمة الله تثبت إلي الأبد. لذلك يبشر الأنبياء بقدوم "عهد الجديد" يقطعه الله مع شعبه، ويتميّز بتغيير قلوب الشَعب: "إني أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم" (ار 31: 33).
وقد ترجمت لفظة "عهد" في الترجمة السبعينية بلفظة التي تعني الوصيّة. ونرى في تلك الترجمة تأكيداً لعطاء الله المجانيّ للإنسان. فالعهد ليس مجرّد معاهدة بين فريقين، إنّما هو عطاء مجّانيّ من قبل الله للإنسان ودعوة إلى تقبّل هذا العطاء بحفظ وصايا الله والسلوك أمامه في البرّ والقداسة.
3- قداسة الله في قداسة الإنسان
عند الشعوب القديمة، هناك صلة بين الأشياء المقدّسة والله. فكل ما يلمسه الله يصبح مقدّساً. فإذا سقطت صاعقة على شجرة، تصبح تلك الشجرة مقدّسة لأنّ الله قد مسّها، وإذا ولد طفل في حالة مشوّهة يعتبر مقدّساً لأنّ الله قد مسّه. لذلك تقترن القدسيّات بالرهبة والخوف.
أمّا الشعب الإسرائيليّ فقد رأى في القداسة ميزة شخصيّة لله. والقداسة هي مجموعة صفات الله من صلاح وعدل وأمانة ومحبّة ورأفة الخ. وبمَا أن جميع تلك الصفات ينظر إليها الشعب من خلال علاقة الله بالإنسان، فإن قداسة الله هي في علاقته بالبشر ورحمته ومحبته لهم.
ثم إنّ قداسة الله تظهر في تقديس الإنسان. يقول حزقيال: "يا ابن البشر، ان آل إسرائيل لما سكنوا في أرضهم نجّسوها بطريقهم وأعمالهم.. فلما دخلوا بين الأمم.. دنّسوا اسمي القدوس.. لذلك قل لآل إسرائيل: هكذا قال السيد الرب، ليس لأجلكم أنا فاعل، يا آل إسرائيل، لكن لأجل اسمي القدوس الذي دنّستموه في الأمم الذين دخلتم بينهم فأقدّس اسمي العظيم الذي دنّس في الأمم الذي دنّستموه فيما بينهم، فتعلم الأمم أنيّ أنا الرب.. حين أتقدّس فيكم على عيونهم. وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلى أرضكم. وأنضح عليكم ماء طاهراً فتطهرون من جميع نجاستكم.. وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً.. وأجعلكم تسلكون في رسومي وتحفظون أحكامي وتعملون بها.. وتكونون لي شعباً وأكون لكم إلهاً" (36، 17- 28).
إنّ الشعب بخطاياه يدنّس اسم الله. إلا أن الله يظهر رحمته ومحبّته لشعبه فيخلّصهم من خطيئتهم ويضع فيهم روحاً جديدا لتتميم وصاياه. وهكذا يقدّس الله. ان قداسة الله لا يستطيع العقل البشريّ أن يدركها. إلاّ انّها تظهر في تقديس الإنسان. وهكذا يظهر الله قداسته وبرّه وصلاحه في قداسة الإنسان وبرّه وصلاحه.
هذا المفهوم لقداسة الله هو قريب جداً من مفهوم النعمة في العهد الجديد. فالنعمة هي قداسة الله التي تملأ الإنسان وتعطيه قلباً جديداً وروحاً جديداً يستطيع بهما أن يحيا في القداسة على مثال الله، ويتمّ إرادة الله وأحكامه ووصاياه، ويكون أميناً للعهد الذي قطعه مع الله.
وهنا نجد أساس الشهادة المسيحيّة. إذا كانت قداسة الله تظهر في الإنسان، فلا بدّ من أن يحيا المسيحيّ حياة الله فيه ليشهد لله في العالم: "هكذا فليضئ نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات" (متى 5: 16).
فقداسة الله ليست إذاً أمراً رهيباً يثير الخوف والرعب كما عند الوثنيّين. ومهما خطى الإنسان، فإنّ محبة الله تبقى ثابتة أمينة: "كيف أعاملك يا أفرائيم وأصنع بك يا إسرائيل.. قد انقلب فيّ فؤادي واضطرمت مراحمي. لا أنْفِذُ وَغْرَ غضبي ولا أَهِمُّ بعد بتدمير أفرائيم. لأني أنا الله لا إنسان. أنا في وسطكم القدوس" (هو 11: 8- 9). إن الإنسان الخاطئ يخاف من الله القدوس. إلاّ أن قداسة الله تقوم لا على تدمير الإنسان، بل على تبريره وخلاصه. وهكذا ظهر لنا الله في شخص يسوع المسيح الذي "لم يأت ليدين العالم بل ليخلّص العالم".
هذا ما اختبره أشعيا وعبّر عنه في الرؤيا التي شاهدها في الهيكل، حيث سمع الملائكة ينشدون لله: "قدوس قدوس قدوس رب الجنود. الأرض كلها مملؤة من مجده". فوعى عندئذٍ أشعيا خطيئته وقال في نفسه "ويل لي قد هلكت، لأني رجل دنس الشفتين، وأنا مقيم بين شعب دنسي الشفاه وقد رأت عيناي الملك ربّ الجنود". هذا هو المشهد الأوّل من الرؤيا: التناقض بين قداسة الله وحالة الإنسان الخاطئ. إلاّ أنّ الرؤيا لا تقف عند هذا الحد. ويتابع أشعيا: "فطار إليّ أحد السرافين وبيده جمرة أخذها بملقط من المذبح ومسّ في وقال: ها إن هذه قد مسّت شفتيك، فأزيل إثمك وكُفِّرت خطيئتك" (اش 6: 1- 7).
4- المجد حضور الله في الإنسان
- تعني لفظة مجد بالعبرية (كَفُود) "الثقل". وبما أن ثقل الشيء يدلّ على قيمته، فالمجد يعني أولاً القيمة، ومن ثم القدرة والسلطة. أمّا أساس المجد فيكون إمّا الثروة، كإبراهيم الذي كان "مجيداً" لأنه كان "غنياً بالماشية والفضة والذهب" (تك 13: 2). وإمّا المكانة الاجتماعية، وفي ذلك يقول يوسف لإخوته: "أَخبروا أبي بجميع مجدي بمصر وجميع ما رأيتموه" (تكوين 45: 13). وأيوب يصرخ في شدّته: "إن الله قد عرّاني من مجدي ونزع إكليل رأسي" (أي 19: 9).
- إلاّ أن العهد القديم قد رأى أن "المجد الإنساني" أي المبنيّ على الثروة والمكانة الاجتماعية مجد باطل: "لا تخش إذا استغنى ونمى مجد بيته، فإنه إذا مات لا يأخذ شيئاً ولا ينزل معه مجده" (مز 48: 17- 18). وحده الله هو مجد الإنسان الذي لا يتزعزع "عند الله خلاصي ومجدي، وفي الله صخرة عزّي ومعتصمي" (مز 61: 8).
- أمّا تعبير "مجد الله" فيعني ظهور الله نفسه في عظمته وقدرته وبهاء قداسته. ويتجلّى مجد الله في أمرين: في العظائم التي يجريها وفي ظهوراته.
- عظائم الله وهي أولاً الخلق "السماوات تذيع مجد الله، والفلك يخبر بأعمال يديه. "لتمتلئ الأرض كلّها من مجد الرب" (عد 14: 21)، ثم العجائب التي يجريها لشعبه، كمعجزة البحر الأحمر، "وفيها مُجّد الرب بفرعون وجميع جنوده ومراكبه" (خر 14: 17- 18)، أي ظهرت قدرته، تم معجزة المنّ والسلوى في الصحراء، التي فيها رأى العب "مجد الرب" (خر 16: 7).
إلاّ أن هذه العظائم التي يجريها الله لا تهدف إلى إظهار قدرة الله وحسب، بل أيضاً إلى خلاص الإنسان. فالمجد يأتي مراراً مرادفاً للنص: "ستفرح البرّية والقفر وتبتهج البادية وتزهر كالورد.. فهم ينظرون مجد الرب وبهاء إلهنا" (أش 35: 1- 2). وهذا ما رآه لوقا عندما استبدل كلمة "خلاص" بكلمة "مجد" في النص الذي يأخذه من أشعيا: "صوت صارخ في البرية اعدّوا طريق الرب.. فيعاين كلّ إنسان خلاص الله" (لو 3: 4- 6). أمّا أشعيا فيقول: ".. ويتجلى مجد الرب ويعاينه كل ذي جسد" (أش 40: 3- 5).
فمجد الله هو إذاً قدرته التي تظهر لخلاص الإنسان: "عندما يبني الربّ صهيون يتجلّى في مجده" (مز 101: 17).
- ثم إن مجد الله لا يعني فقط ظهوره من وقت إلى آخر، بل حضور، الدائم وسط شعبه، أوّلاً على جبل سيناء (خر 24، 15؛ تث 5: 22)، ثم في الهيكل (خر 29: 43؛ 40: 34). وهذا الحضور يهدف إلى تقديس الشعب. إلاّ أن الله لا ينحصر حضوره في الهيكل. فقد رآه حزقيال يترك الهيكل (حز 11: 22)، ويلأ بروحه جماعة إسرائيل في السبي (حز 36: 23؛ 39: 21- 29).
- أشعيا الثالث يجمع بين هذين المعنيين: معنى القدرة ومعنى الحضور. فالله يملك في المدينة المقدّسة التي جدّدها بقدرته وأنارها بحضوره "قومي استنيري، فإنّ نورك قد وافى ومجد الرب أشرق عليك" (60: 1- 2). لذلك تصبح أورشليم تسبحة مجد في الأرض" (62: 7)، "وفيها يجمع الرب جميع الأمم والألسنة، فيأتون ويرون مجده" (66: 18).
هذا المفهوم لحضور الله سيبلغ كماله في العهد الجديد. فيسوع هو تجسيد حضور الله وقدرته. والنعمة هي حضور الله في الإنسان بقدرته الإلهيّة"، التي تؤهّل الإنسان أن يعمل أعمال البرّ والقداسة.
|
|
|
|