2- الروح القدس ويسوع
"إنّ الله بعد أن كلَّمَ الآباء قديماً بالأنبياء مراراً عديدة وبشتّى الطرق كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة بالابن الذي جعله وارثاً لكلّ شيء، وبه أيضاً أنشأ العالم، الذي هو ضياء مجده وصورة جوهره، وضابط كلّ شيء بكلمة قدرته" (عب 1: 1- 3).
إنّ يسوع، كلمة الله النهائيّة للبشر، كان ممتلئاً من الروح القدس في عمق كيانه. فقد حُبل به بواسطة الروح القدس، وبقوّة الروح القدس صنع العجائب وطرد الأرواح الشرّيرة وغفر الخطايا، وأعلن معنى ما يقوم به: "إن كنت أنا بروح الله اخرج الشياطين، فذلك أنّ ملكوت الله قد انتهى إليكم" (متى 12: 29).
والروح القدس هو الذي أقام ِيسوع من بين الأموات بعد موته: "إنّ ابن الله الذي وُلد بحسب الجسد من ذريّة داود قد أُقيم بحسب روح القداسة في قدرة ابن الله بقيامته من بين الأموات" (رو 1: 4). لقد خضع ابن الله للموت على غرار كلِّ الناس الذين صار واحداً منهم، لكنّه بموته أمات الموت وقام بقدرة الروح الذي كان متحداً به اتحاداً جوهرياً. فالروح الذي أقام يسوع هو نفسه الذي كان يسوع ممتلئاً منه في حياته. إنّه روح الله، روح الحياة وروى القيامة.
3- الروح القدس ينطق بالوجود المسيحي على مدى الزمن
"إنّ يسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود به، أفاض ما تنظرون وتسمعون" (أع 2: 31، 33). هكذا فسّر بطرس الرسول لليهود حلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة.
وعندما نسأل اليوم ماذا يعني الإيمان بالروح القدس في واقع حياتنا؟ نجيب درن تردد أنّ الله الذي كلَّم الإنسان قديماً بالأنبياء، وملأ يسوع في حياته، وأقامه من الأموات بعد مماته، وملأ التلاميذ يوم العنصرة وفي كرازتهم حتى الاستشهاد، لا يزال يكلِّمنا ويملأنا من حياته الإلهية. فالله ليس فكرة منعزلة في عالم آخر، بل إنّه في عالمنا منذ أن صنعه. وفي ضمير كلّ إنسان منذ أن خلقه. لقد كلّم البشر في داخلهم كما كلَّمهم بواسطة أنبيائه، ثم كلَّمهم في شخص ابنه يسوع، وأخيراً أرسل إليهم روحه القدّوس مكث فيهم يحييهم.
"لا أحد يستطيع أن يقول: "يسوع رب" إلاّ بالروح القدوس" (1 كو 12: 3). فكلّ فعل إيمان هو عمل الله في الإنسان، وكلّ عمل خير هو عمل الله في الإنسان. إنّ إيماننا بالروح القدس يعني اليوم في واقع حياتنا أنّ الله غير بعيد عنّا، يعمل في الإنسان وبعمل في الكون ليقود ذاك إلى الخير وهذا إلى الكمال.
نحن مدعوّون بحسب بولس الرسول إلى أن نكون روحانيين ممتلئين من الروح القدس فنحيا في حياتنا بحسب الروح، ليس فقط في المواهب الخارقة من صنع المعجزات والأشفية والتكلُّم بالألسنة والنبوّة وتمييز الأرواح والحكمة والعلم (راجع 1 كو 12: 7- 11)، بل أيضاً في الحياة اليومية الاعتيادية حيث يجب أن تظهر تمار الروح: "المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاة والأمانة والوداعة والعفاف" (غلا 5: 22، 23). ففي داخل كلّ إنسان يحيا بالروح يبدأ عالم جديد، عالم الحياة الحقّة، عالم الله وعالم ابنه يسوع المسيح وعالم روحه القدّوس الذي يصرخ فينا "أبّا أيّهاٍ الآب" (غلا 4: 6).
إنّ إيماننا بالروح القدس هو الإيمان بأنّ الله حاضر في العالم وحاضر في كنيسته يعمل في إيمانها أسرارها، وتبقى محبته أمينة رغم عدم أمانة أبنائه له. لقد رافق الله الكنيسة عبر القرون وتكلّم في مجامعها ولا يزال يحملها على إدراك ما ينقص في مؤسّساتها وتوضيح تعاليمها.
وإنّ إيماننا بالروح القدس هو الإيمان بأنّ الله حاضر في قدّيسيه، في كلّ الذين يحيون حياة الله ويعكسون صورته. هؤلاء هم الأنبياء المعاصرون الذين ينطق الروح بكلامهم وحياتهم، وحياتهم هي ذاتها نبوّة حيّة تنبئ بحياة الله، ووجودهم هو ذاته كرازة تعلن وجود الله، من يراهم يدرك أنّه في المسيح يسوع ظهرت خليقة جديدة لا يمكن إلاّ أن تكون عمل الله نفسه.
وإنّ إيماننا بالروح القدس هو أخيراً رجاء بمستقبل البشرية. لا شكّ أنّ البشرّية تتخبّط اليوم في تناقضات لا تعرف كيف تحلّها: بين الفرديّة والجماعيّة، وقيمة الشخص البشري وضرورة الروابط الاجتماعيّة. لكنّنا نؤمن أنّ روح الله حاضر فيها بواسطة كلّ إنسان يحيا حياة الروح ويسعى إلى نشر المحبة والسلام في العالم، وهو الذي سيقود البشر إلى حلّ تناقضاتهم فيصيرون على صورة الله. إنّ الإيمان بالروح القدس يشمل التاريخ برمَّته وعمل الله فيه في ماضيه وحاضره ومستقبله.
ثانيًا- بالروح القدس يكتمل وحي الثالوث الأقدس
إنّ حقيقة الثالوث الأقدس قد عاشتها الكنيسة الأولى في صلواتها وأسرارها قبل أن تعلنها عقيدة إيمانيّة، فكانت تعمّد "باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 28: 18). ففي هذه العبارة التي يضعها إنجيل متّى على لسان يسوع نفسه وتعود إلى القرن الأوّل، نجد بوضوح ذكر الأقانيم الإلهية الثلاثة. كذلك يذكر سفر أعمال الرسل: "لمّا سمع الرسل الذين في أورشليم أنّ السامرة قد قبلت كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا. فانحدرا وصلَّيا لأجلهم لكي ينالوا الروح القدس، إذ لم يكن بعد قد حلَّ على أحد منهم، بل كانوا قد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع. عندئذٍ وضعا أيديهمَا عليهم فنالوا الروح القدس" (أع 8: 14- 17). ففي هذا الحدث تمييز واضح بين الرب يسوع والروح القدس، وتأكيدٌ أنّ المسيحي لا يكتمل إيمانه بمجرّد الإيمان بالربّ يسوع، أي "إنّ يسوع المسيح هو ابن الله" كما ورد في معموديّة قيّم ملكة الحبشة على يد فيلبّس (أع 8: 37)، بل بالإيمان بالروح القدس والامتلاء منه. فالإيمان بالآب والابن يكمّله الإيمان بالروح القدس.
وماذا يعني ذلك في واخذ حياتنا المسيحية؟
1- الروح القدس هو حضور الله نفسه في الكون
يمكن الإنسان أن يؤمن بوجود الله وبأنّ الله قد خلق العالم، ولكنّ هذا الإيمان قد يبقى بعيداً عن الحياة. فالفلاسفة العقلانيّون الألوهيّون في القرن الثامن عشر (من أمثال فولتير) كانوا يؤمنون بإله كهذا، إلاّ أنّهم كانوا يعتقدون أنّ هذا الإله بعد خلقه العالم لم يعد مرتبطاً به بأي علاقة.
إلى جانب هذه الفئة الأولى من المؤمنين بالله يمكننا أن نجد فئة ثانية من أمثال ميخائيل نعيمة، تؤمن بأنّ الله قد أرسل ابنه يسوع المسيح معلِّماً للإنسانية على غرار سائر المعلّمين والأنبياء، وتعتقد أنّ يسوع مات كسائر الأنبياء ولم يبقَ أنه بعد موته إلاّ تعاليمه يقرأها الناس فيتّعظون بها ويحاولون تطبيقها في حياتهم.
إنّ المسيحية هي أعمق من ذلك، ترى في يسوع المسيح ليس معلّماً ومثالاً وحسب بل أيضاً مخلِّصاً، وتؤمن أنّ يسوع المسيح بعد موته قام من أن الأموات ودخل في مجد الآب وأرسل إلينا روحه القدّوس ليمكث فينا ويعمل فينا. ففي المسيحيّة لا يُترك الإنسان لقواه الذاتية، إنّما يستقرّ الله فيه ليعمل وإيّاه على تحقيق كماله الشخصي وكمال الإنسانيّة.
هذا هو معنى إيماننا بالروح القدس الذي به يكتمل وحي الثالوث الأقدس وتظهر صورة الله الحقيقيّة. إنّ تاريخ الفكر البشري بأسره هو بحث مستمرّ عن الله. وفي المسيحيّة الله نفسه هو الذي يأتي إلينا "في ملء الأزمنة" في شخص يسوع المسيح ويمكث فينا بروحه القدّوس. لذلك يدعو بولس الرسول الروح القدس "روح الله" و"روح المسيح" و"روح الرب"، لأنّه به يستقرّ عمل المسيح الحيّ مدى الدهر. بهذا الروح وحده نستطيع بلوغ الإيمان، وبه وحده "نصير للمسيح" (رو 8: 9) وأبناء الله (غلا 4: 6)، وبه وحده نعرف ما أنعم به الله علينا فينكشف لنا سرّه وطبيعته، لأنّ روح الله وحده يعرف ما في الله (1 كو 2: 10- 12).
من هنا تتّضح لنا أهمية ما قامت به الكنيسة الأولى في المجامع المسكونية لتأكيد ألوهية الروح القدس. فالإيمان بتلك الألوهية لا يعني عودة إلى تعدّد الآلهة بل تأكيداً لقرب الله من الإنسان. فكما أنّ الإيمان بألوهية يسوع المسيح ابن الله لا يعني ازدواجية في الله بل قرب الله من الإنسان إلى حدّ أنّه صار واحداً منّا في شخص ابنه يسوع المسيح، هكذا الإيمان بألوهية الروح القدس يعني أنّ الله ليس سيداً عن الإنسان بل يمكث فيه ويحييه ويعمل به. فتأكيد ألوهية الابن هو تأكيد أنّ الله نفسه صار إنساناً، وتأكيد ألوهية الروح القدس هو تأكيد أنّ الله نفسه هو الذي لا يزال يمكث في الإنسان والتاريخ على مدى الزمن.
2- مصدر عقيدة الثالوث الأقدس في المسيحية: الله كما ظهر لنا
استناداً إلى ما قلناه عن الابن والروح القدس يظهر لنا بوضوح أنّ مصدر عقيدة الثالوث الأقدس في المسيحية لن نجده في أيّ من الديانات القديمة بل في ظهور الله نفسه في تاريخ الخلاص. إنّ عقيدة الثالوث لم تُعلن في الإيمان المسيحي انطلاقاً من تخيّلات أسطورية ولا من نظريات فلسفية ماورائية، بل اعتَلَنت بظهور الله في تاريخ الخلاص آباً وابناً وروحاً قدساً. ففي تاريخ الخلاص ظهر يسوع ابن الله متميّزاً عن الآب، فكان في صلاته يخاطب الله داعياً إيّاه أباه، وكان في أعماله يغفر الخطايا ويصنع المعجزات بقدرة الله، فاعترف به الرسل وآمنوا انه "ابن الله" و"الكلمة الذي كان في البدء عند الله" (يو 1: 1، 2).
ليست عقيدة التجسّد حكاية نزول إله من السماء إلى الأرض ليقضي فيه بضع سنوات ثم يعود إلى حيث كان. تلك الأسطورة بجد أمثالها في ديانات الهند. إنّما عقيدة التجسّد تأكيد إيماني أنّ الإنسان يسوع المسيح الذي وُلد وعاش ومات في حقبة معيّنة من التاريخ ليس مجرّد إنسان نقل إلينا كلام الله كما ينقله نبيّ ويبقى في كيانه مستقلاً عن الله. إنّ "ههنا أعظم من نبيّ" (راجع متى 12: 41، 42). إنّ يسوع هو، في عمق كيانه وفي جوهره وفي حياده وموته وقيامته، "كلمة الله"، أي به وفيه ظهر الله نفسُه وأوحى بذاته كما هو. إنّ الأنبياء كلّهم نقلوا إلى البشر كلام الله، أمّا يسوع فهو في ذالّه "كلمة الله". وبما أنّ "كلمة الله" التي من "ذات الله" لا يمكن أن تكون مخلوقة، اعترفت المسيحية بألوهية يسوع المسيح. إلاّ أنّها أصرّت على تأكيد تميّزه عن الله الآب الذي أرسله وبه تكلّم وبه أوحى بذاته إلى العالم.
وكذلك القول عن الروح القدس الذي ظهر متميّزاً عن الآب والابن. فالآب أرسله. وهو "ينبثق من الآب"، ويسوع يرسله إلى التلاميذ "من لدن الآب" (يو 15: 26).
فانطلاقاً ممّا نقرأ في الكتاب المقدّس عن ظهور الله نفسه في تاريخ الخلاص آباً وابناً وروحاً قدساً، عبّر اللاهوت المسيحي في القرن الرابع عن إيمانه بالله بقوله: إله واحد، أبَ طبيعة واحدة في ثلاثة أقانيم. لقد استقى اللاهوت لفظتَي طبيعة وأقنوم من الفلسفة اليونانية وحدّد معناهما بالنسبة إلى الثالوث الأقدس. وقد أراد بتلك العبارة التوفيق بين ما يبدو لعقل البشر متناقضاً: التوحيد والتثليث. إنّ اللاهوت المسيحيّ لم يختلق صورة الله انطلاقاً من تصوّرات العقل البشري، بل عبّر عما اختبره الإنسان في ظهور الله نفسه، الآب والابن والروح القدس.