وكذلك يرى مولتمن خطراً في استعمال لفظة "أقنوم" أو شخص أو "طريقة وجود" بمعنى واحد للآب والابن والروح القدس. فالآب ليس أقنوماً كالابن، بل هناك فرق بين الأقانيم الثلاثة. لأن ما يميّز الأقنوم أو الشخص هو علاقته بالآخر. وبما أن الأقانيم الثلاثة يتميّز أحدهم عن الآخر بعلاقته الفريدة تجاه الآخر، لا ينطبق مدلول لفظة "أقنوم" بالمعنى ذاته على كل منها.
يشير أخيراً مولتمن إلى أنّ نظرة اللاهوت الغربيّ بإسناد الوحدة في الله إلى الطبيعة الإلهية قد تقود إلى إزالة الفرق بين الأقانيم الثلاثة، كما نرى ذلك في البدعة الشكلانيّة. لذلك يجب القول إنّ الوحدة في الله لا تسبق الأقانيم. بل "إنّ الوحدة الإلهية تكمن في ثالوث الآب والابن والروح القدس. إنّها لا تسبق الثالوث ولا تأتي بعده".
ويخلص مولتمن إلى القول إنّنا في لاهوت الثالوث الأقدس لا نستطيع استعمال ألفاظ مجرّدة تشمل بمدلول واحد الأقانيم الثلاثة. بل يجب الاكتفاء بسرد تاريخ الآب والابن والروح القدس. وهذا التاريخ يختبره الإله الثالوث نفسه.
ب) نتائج النظرة على لاهوت الكنيسة
1) إنّ التركيز في لاهوت الثالوث على وحدة الطبيعة أو على وحدة الذات الإلهية يقود إلى رؤية وحدويّة وسلطويّة للكنيسة: إله واحد، مسيح واحد، رئيس واحد للكنيسة (بطرس الرسول، ومن بعده بابا رومة). وفي هذه النظرة الوحدويّة تبدو الطاعة للسلطة الكنسيّة الركيزة الأساسيّة لبنية الكنيسة.
أمّا رؤية الوحدة في تثليث الأقانيم فأكثر انسجاماً مع الله المحبة، وينتجَ منها نظرة للكنيسة مبنيّة، لا على السلطة والطاعة، بل على الحوار والوفاق، وعلى عمل الروح في الكنيسة.
2) وفي هذه النظرة الثالوثيّة يبدو ملكوت الله تحقيق ملك الآب والابن والروح القدس.
يقوم ملك الآب على خلق عالم منفتح على المستقبل، لتمجيد الله الثالوث. فالخلق منذ البدء ليس إلاّ بداية عمل الله الخلاّق، الذي يمتدّ حتى نهاية التاريخ. وهكذا يتّخذ مفهوم العناية الإلهية بعداً جديداً، هو بعد الانفتاح على المستقبل. فالله الآب يعتني بأبنائه، ليس فقط في الحاضر، بل فتحهم على المستقبل. وملك الآب ليس فقط ملك قدرة، بل هو ملك رجاء يظهر في محبة الله وصبره وقبوله بإمكانيّة ابتعاد خلائقه عنه وانغلاقها على ذاتها. هكذا يفسح الآب المجال لحرّية خلائقه: فهو يملك بخلق كيانها وإفساح المجال لحرّيتها، حتى ضمن العبوديّة التي هي ذاتها مسؤولة عنها.
أمّا ملك الابن فيقوم في سيادة المصلوب التي تحرّر الناس من عبوديّة الخطيئة ومن سلطة الموت، وتدخلهم في حرية أبناء الله المجيدة، إذ تجعلهم على صورته. لقد خلق الإنسان على صورة الله لينال البنوّة الإلهية. فهو من ذاته منفتح على مستقبل إلهيّ سيحقّق فيه كمال كيانه. فإن هو ابتعد عن الله، انغلق بالفعل عينه على ذاته وقتل فيه كل إمكانيّة إلهيّة مستقبليّة. والابن هو المصلوب الذي يحرّر الإنسان بالألم الذي يقبله طريقاً إلى القيامة.
وأخيراً ملك الروح يختبره المسيحيّ الذي حرّره الابن وصار ممتلئاً من مواهب الروح. وفي هذا الامتلاء يختبر المسيحيّ أن الله قريب منه: فهو في الله، والله فيه. وتلك الخبرة يدعوها الصوفيّون "ولادة الله في النفس".
وفي الروح تولد جماعة جديدة، هي العلامة المسبقة للخليقة الجديدة التي سوف تجد كمالها في ملك المجد في مشاهدة الله وجها لوجه في حياة الثالوث الأبدية.
3- هانس كونج (Hans Kung)
أوضح هانس كونج نظرته اللاهوتية إلى سرّ الثالوث الأقدس في آخر كتابين له: "هوّية المسيحيّ"، الذي نشر بالألمانية سنة 1974، وترجم إلى الفرنسيّة سنة 1978، و"أموجود الله؟" الذي نشر بالألمانيّة سنة 1978، وترجم إلى الفرنسية سنة 1981.
وقد أثار الكتابان ضجة كبرى في الأوساط الكاثوليكية، بسبب مواقف المؤلف المتطرّفة، لا سيّما في تفسيره لألوهيّة المسيح. وهذا الموضوع يمتّ بصلة وثيقة إلى موضوع الثالوث الأقدس. لذلك سنوجز فكرته في هذين الموضوعين اللذين يحاول أن يعبّر من خلالهما عن العقيدة المسيحية بطريقة تتلاءم وعقليّة الإنسان المعاصر.
ء) ألوهيّة المسيح
عن ألوهيّة المسيح، يعتبر كونج أولا ان الإله واحد. لذلك لا يمكن أن يكون "ابن الله" الذي تجسّد في يسوع المسيحٍ إلهاً آخر إلى جانب الله، كما تقول الآريوسية. ويرفض من ناحية أخرى الشكلانيّة، مؤكّدا أنّ "ابن الله" ليس مجرّد شكل لله، بل هو كائن متميّز عنه، وإن ارتبط به ارتباطاً وثيقاً في علاقة فريدة لا نجدها عند أيّ من الناس.
وتلك العلاقة الفريدة بين يسوع الناصريّ والله، يراها كونج في الوحي، ويصوغها على النحو التالي: إن يسوع الناصريّ، الإنسان الحقيقي، هو، للمؤمن، الوَحي الصحيح للإله الحقيقيّ الأوحد". وتتضمّن هذه العبارة كلّ ما جاء في العهد الجديد عن الوحدة بين الآب والابن، كما في الأقوال التالية ليسوع: "الآب يعرفني، وأنا أعرف الآب" (يو 10: 15)، "إنّ الآب فيّ، وأنا في الآب" (يو10: 38)، "أنا والآب واحد" (يو10: 30)، "من رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9).
في هذه التصريحات لا يرى كونج أيّ تأكيد ما ورائيّ حول كيان الله، بل مجرّد تعبير عن شخص يسوع ودوره بالنسبة إلى الله وبالنسبة إلينا. يقول كونج:
"ففي عمل يسوع وفي شخصه يأتي الله لملاقاتنا ويتجلّى تجلّياً محسوساً، ليس للمراقب المحايدة بل للإنسان الذي يؤمن بيسوع ويسلّم له ذاته بثقة. فني يسوع إذاً يظهر الله على حقيقته. وفي يسوع يُظهر الله، على نحوٍ ما، وجهَه.. لذلك يمكننا أن ندعو يسوع وجه الله، أو حسب قول العهد الجديد ذاته، "صورة الله" (كو 1: 15). وهذا معنى عبارتي "كلمة الله" و"ابن الله". فهذه التعابير هي صور لا تعني سوى العلاقة الفريدة التي تربط يسوع بالآب وبالبشر: إنّ عمل يسوع وأهميّة شأنه يقومان على أنَه هو وحي الله لأجل خلاص العالم"
أمّا عن وجود ابن الله منذ الأزل مع الله قل التجسّد فيقول كونج إنّه أمر يصعب اليوم قبوله. انه مجرّد انعكاس في اللاهوت المسيحيّ لاعتقادات يهوديّة في وجود الحكمة الإلهية والتوراة، كلام الله، منذ الأزل مع الله. إن تفكير العهد الجديد قد انتقل من الآخر إلى الأوّل، من النهاية إلى البداية. فإذا كان يسوع المصلوب الذي أقامه الله هو هدف التاريخ ونهايته، فلا بدّ أن يكون منذ البداية ومنذ الأزل مع الله. فالآخر هو أيضاً الأوّل.
ويضيف أنّ تلك التصوّرات لا تعني لنا اليوم سوى التأكيد على "أن العلاقة بين الله ويسوع لم تنشأ عن طريق الصدفة، بل هي من المعطيات الأوليّة، وأساسها في الله نفسه". ذلك "أنّ الله هو منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد، كما أوحى بذاته في يسوع".
أمّا عن المجامع المسكونيّة، فيرى كونج أنّ مجمع نيقية (325)، في رفضه نظرّية آريوس، وإعلانه أنّ يسوع هو "من ذات جوهر الآب"، أراد التأكيد على أن يسوع ليس إلهاً آخر إلى جانب الله، ولا إلهاً بين الله والإنسان. بل إنّ الله الواحد الحقيقيّ قد ظهر ظهوراً حقيقياً في شخص يسوع. وهذا أيضاً معنى تصريح مجمع خلقيدونية (451) أنّ يسوع هو إله حقيقيّ وإنسان حقيقيّ. وهذا التصريح يجب تأكيده اليوم أيضاً، بمعنى أنه لا يمكننا القول إن يسوع هو "إله وحسب"، ولا إنّه "إنسان وحسب". بل هو في آنٍ معاً إله وإنسان.
لكن كونج يفسّر ألوهية المسيح في منظار وظيفيّ، لا في منظار ماورائيّ. أي إنّ الله قد تكلّم وعمل وأوحى ذاته الوحي النهائيّ في شخص يسوع وعمل يسوع. فيسوع هو موفد الله ووكيله وممثّله ونائبه، وقد أثبت الله دور يسوع هذا عندما أقامه من بين الأموات. وكل التصريحات حول البنوّة الإلهية ووجود ابن الله منذ الأزل ووساطته في الخلق وتجسّده، إنّما هي وليدة فكر أسطوري، ولا تهدف إلاّ إلى إعلان الصفة الفريدة التي يتمتّع بها يسوع في دعوته وتطلباته، والتأكيد على أنّ تلك الدعوة والتطلّبات لم تأتِ من مصدر بشريّ بل من مصدر إلهيّ.
لذلك يقول كونج إنه لا يرفض أي شيء ممّا أعلنته المجامع المسكونية في موضوع ألوهية المسيح، ولكنّه يضيف أنّه يجب التعبير عن تلك التعاليم في إطار مفاهيمنا وثقافتنا المعاصرة.