24 - 01 - 2013, 01:01 PM
|
رقم المشاركة : ( 19 )
|
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس
الفصل الثالث
الثالوث الأقدس في اللاهوت المعاصر
يتميّز اللاهوت المعاصر، في عرضه لعقيدة الثالوث الأقدس، برغبه العودة إلى أسلوب العهد الجديد، الذي لا ينظر إلى موضوع الأقانيم الثلاثة كوصف دقيق موضوعيّ للذات الإلهية بقدر ما ينظر إليه كتعبير عن علاقة الله الخلاصيّة بالإنسان. فني هذه العلاقة ظهر لنا الله آباً وابناً وروحاً قدساً.
فالمعضلة تكمن في تحديد مدى تطابق ظهور الله في تاريخ الخلاص مع كيانه الذاتي. كما تكمن في تحديد مدي إمكانيّة التعابير التقليديّة بالإحاطة بسرّ الله، كالقول إنّ الله "ثلاثة أقانيم في جوهر واحد"، وإن الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس هو الذي تجسّد، ومدى انسجام تلك التعابير والثقافة المعاصرة.
سنقتصر على عرض أفكار ثلاثة لاهوتيّين خاضوا هذا الموضوع: راهنر، ومولتمن، وكونج. فالأوّل، كاثوليكي، عبّر عن اللاهوت التقليدي بأسلوب جديد، دون أن يحيد عن الإيمان المعترف به في الكنيسة الكاثوليكية. والثاني، بروتستنتي، ركّز على إيجاد لغة تجمع بين الوحدة في الله وتثليث الأقانيم. والثالث، كاثوليكي، أراد التوجّه إلى الإنسان المعاصر بلغة يفهمها، فحكمت عليه الكنيسة بأنّه حاد عن الإيمان المسيحي كما تعتنقه الكنيسة الكاثوليكية منذ القديم.
1- كارل راهنر (Karl Rahner)
ء) ظهور الثالوث في تاريخ الخلاص
ينطلق كارل راهنر، اللاهوتي الألماني المعاصر (+ 1984)، من المبدإ اللاهوتيّ القائل إنّ الحياة الإلهية هي سرّ لا يمكن الإنسان الوصول إليه بقواه الذاتية، وإننا من ثمّ لا نستطيع أن نصل إلى معرفة الله معرفة تامّة ما يمنحنا الله ذاته تلك المعرفة. ويضيف أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق إلاّ من خلال عطاء الله نفسه لنا عطاء ذاتياً ومباشراً.
وإذا عدنا إلى الكتاب المقدّس، نجد ان هذا العطاء الذاتيّ لله قد تحقّق بوساطتين متميّزتين: وساطة يسوع المسيح ابن الله، ووساطة الروح القدس. والمسيح والروح لا يمكن أن يكون مخلوقين، وإلاّ لما أتيح لنا الاتّصال بالله في ذاته.
من هنا يخلص راهنر إلى تحديد القاعدة. التي يعتبرها أساسية في كلّ كلام لاهوتِيّ عن الثالوث الأقدس: "إنّ الله في ظهوره الخلاصيّ لا يختلف عمّا هو عليه في حياته الذاتيّة. والإنسان باتّحاده بالله من خلال ظهوره لنا في الابن والروح القدس لا يتّحد بمظاهر الله، كما كانت تقول البدعة الشكلانيّة، يل يتّحد بحياة الله الذاتية. فالثالوث هو، في ذاته، كما ظهر لنا في تاريخ الخلاص". يقول راهنر:
"إنّ التعبير عن سرّ الله الثالوث انطلاقاً من علاقة المحبة التي تربط البشر بعضهم ببعض، كما نجدها عند القديس أوغسطينوس- مها كانت متفوّقة عبقرية أوغسطينوس وعبقرية الذين من بعده توسّعوا في الطريقة عينها-، أعني بذلك اعتبار الأقانيم الإلهية العناصر الثلاثة التي تكوّن المحبة، أي المحب، والمحبوب، والمحبة ذاتها، إنّ هذا التعبير لا يفسّر ما يجب تفسيره، أي لماذا الابن هو كلمة الآب، ولماذا ينبثق الروح من الآب. لأنّ تفسيراً كهذا يفترض أنّ الله يعرف ذاته ويحب ذاته، ولا يشرح كيف أنّ تلك المعرفة والمحبة هما مصدر ولادة الابن وانبثاق الروح.
"حتى وان أغفلنا تلك الصعوبات، يبقى أن هذا التفسير الذي عُرف "بالتفسير النفسي للثالوث" بهمل إلى حدّ بعيد النقطة الأساسية التي يرتكز عليها تاريخ الوحي وتاريخ العقائد في موضوع الثالوث الأقدس، أعني الخبرة التي من خلالها اختبر الرسل أن الابن الروح القدس هما عطاء الله ذاته لنا. وتلك الخبرة لتاريخ الخلاص هي وحدها كفيلة بأن تفهمنا معنى عقيدة الثالوث الأقدس: إن "التفسير اللاهوتي للثالوث" يتجاوز خبرتنا للثالوث في تاريخ الخلاص، ليغوص في نظريّات هي أقرب إلى "الغنوصية" منها إلى الإيمان المسيحي، ويسبر أعماق الذات الإلهية. وهو بذلك ينسى أن وجه الله، كما رأيناه، في عطاء الله ذاته لنا بشكل ثالوثيّ، هو نفسه الذات الإلهيّة في كل عمقها. لأن ما وصلنا من النعمة الإلهية والمجد الإلهي هو الله ذاته في عطائه لنا.
"في تاريخ الخلاص، الجماعيّ والفرديّ، لا يمكن القول إن كائنات سماوية قد ظهرت في عالمنا باسم الله، بل إنّ ما ظهر لنا وأعطي لنا حقاً هو الإله الوحيد نفسه، الذي لم يرسل إلينا من ينوب عنه أو يمثّله، بل أتى إلينا هو ذاته وكما هو في ذاته. والذي تقبّلناه هو الله ذاته وكما هو في ذاته.
"هذا الإله الواحد ندعوه "الروح القدس"، من حيث إنّه يدخل في أعماق الشخص البشريّ فيقدّسه ويؤلّهه، وهذا ما عرفناه واختبرناه في تاريخ الخلاص. وهذا الإله نفسه، من حيث إنّه حضر إلينا هو ذاته -وليس ممثّله أو وكيله- في وجودنا التاريخيّ في شخص يسوع المسيح، ندعوه "الكلمة"، أو "الابن" دون أي إضافة. ومن حيث إنّ هذا الإله الذي يأتي إلينا روحاً ويأتي إلينا كلمة، هو على الدوام الإله الذي لا يمكن التعبير عنه، والسرّ القدسيّ، والأساس والينبوع الذي لا يمكن إدراكه لمجيئه في الابن والروح، ومن حيث إنه يبقى دوماً كما هو، ندعوه الإله الواحد، الآب".
ثم يعود إلى توضيح الجوهر الواحد والأقانيم الثلاثة. فيقول عن الجوهر الواحد:
"من حيث إننا، عندما نتحدّث عن الروح، والابن- الكلمة، والآب، ما نقصده هو بالمعنى الحصريّ أن الله يهب ذاته وليس كائناً آخر متميّزا عنه، يجب القول، بالمعنى الحصريّ عينه، وبالطريقة عينها، إنّ الروح، والابن- الكلمة، والآب، هم إله واحد والإله ذاته، في الملء اللامتناهي للألوهية الواحدة، وفي الجوهر الإلهي الواحد ذاته".
أما عن التمييز بين الأقانيم الثلاثة فيقول:
"ومن حيث إنّ طريقة حضور الله كروح، وابن، وآب، لا تعني بالنسبة إلينا الطريقة ذاتها لهذا الحضور، أي من حيث إنه يوجد تباين في طريقة الحضور، يجب التمييز بدقّة بين طرق الحضور الثلاثة هذه. "فبالنسبة إلينا"، الآب، والابن الكلمة، والروح، ليسسوا أولاً، أمراً واحدًا. ولكن من حيث إن طرق الحضور هذه للإله الواحد ذاته، بالنسبة إلينا، لا يمكنها أن تزيل عطاء الله نفسه لنا عطاء ذاتياً كإله واحد ووحيد ومماثل لذاته، يجب إرجاع هذه الطرق الثلاثة لحضور الله الواحد ذاته، إلى الواحد ذاته، في ذاته وبالنسبة إلى ذاته.
"لذلك عندما نقول: إنّ الإله الواحد ذاته حاضر بالنسبة إلينا كآب، وابن كلمة، وروح قدس، أو: إن الآب يعطي لنا نفسه عطاء ذاتيّا مطلقاً بالابن وفي الروح القدس، يجب اعتبار هذيبن القولين والأقوال الأخرى المماثلة كتصريحات وتوضيحات عن الله كما هو في ذاته. وإلاّ كانت أقوالاً غريبة عن عطاء الله ذاته لنا عطاء ذاتياً. ولا يحقّ لنا أن نفترض وجوداً في الله مغايرا للطرق الثلاثة التي حضر فيها إلينا.. في الثالوث الذي ظهر لنا في تاريخ الوحي والخلاص، اختبرنا الثالوث كما هو في ذات الله. وبما أنّ الله، في الطرق المبيّنة أعلاه، قد ظهر لنا ثالوثاً، يمكننا القول إننا اختبرنا الله في ذاته انطلاقاً من سرّه القدسيّ عينه. ذلك أنّ اقتراب الله من الإنسان اقتراباً حرّاً في النعمة التي تفوق إدراك الإنسان هو الذي يوحي لنا الذات الإلهية في عمقها. فإنّ كون الله مماثلاً لذاته لا يعني مطلقاً الجمود والموت، بل يتضمّن في ذات حيويّة إلهيّة تتيح له أن يأتي إلى ملاقاتنا. وتلك الحيويّة هي بعد أساسي في الثالوث الأقدس..
"إنّ عقيدة الثالوث الأقدس ليست مجرد تفكير بشريّ يمكن الاستغناء عنه. فبدونها لا يمكن أن نفهم كيف أن الله هو في آن معاً السر القدسيّ المطلق، البعيد عن الإنسان بعداً لا متناهياً، والإله القريب من الإنسان قرباً مطلقاً في عطاء ذاته للإنسان عطاء ذاتياً حقيقياً، وذلك في العمق الروحيّ لوجودنا كما في واقعيّة تاريخنا الجسديّ. في هذا يكمن حقاً معنى عقيدة الثالوث الأقدس"
ب) انفتاح الإنسان على المطلق
ويؤكد راهنر أن الإنسان يملك في عمق كيانه إمكانية تقبّل هذا العطاء الذي يهب فيه الله ذاته للإنسان. وتلك الإمكانيّة قد وضعها الله في الإنسان منذ أن خلقه. "فإنّ فعل الخلق هو أحد عناصر هذا العطاء الذي به يهب الله ذاته لنا". إن عطاء الله ذاته لنا يفرض وجود شخص منفتح لتقبّل الإله الشخصيّ. فالإنسان إذاً من جهة كائن جسديّ وماديّ، ومن جهة أخرى وفي آنٍ معاً روحيّ شخصيّ ومنفتح على الإله المتسامي. ثم إنّ وجود الإنسان في الجسد لا يحول دون اتّصال الله به واتّصاله هو بالله. إنّما يوضح الطريقة التي ارتبط بها الله ليتّصل من خلالها بالإنسان، وهى طريقة التجسّد، والطريقة التي يتّصل من خلالها الإنسان بالله، وهي تقبّل الروح.
ج) النعمة دخول في حياة الثالوث
فإن كان الله في ذاته ثالوثاً، ينتج من ذلك أنّ الإنسان باتحاده بالله إنّما يتّحد بحياة الله الثالوث. لذلك لا يكفي القول إنّ النعمة هي موهبة من الله. بل يجب التأكيد على أن النعمة تأتينا بالابن المتجسّد وتجعلنا أبناء لله الآب وهياكل للروح القدس. إنّ اتصال الإنسان بالله ليس مجرد "مشاركة في الطبيعة الإلهية" بنوع عام، كما جاء في رسالة القديس بطرس الثانية (1: 4). بل هو اتّصال بحياة كل من الأقانيم الإلهية الثلاثة: فالآب يمنحنا روحه القدوس ليجعلنا، على مثال الابن، أبناء الله. إن علاقة الإنسان بالله في اللاهوت المسيحي هي علاقة ثالوثيّة، والإنسان يشترك حقا في حياة الله الثالوثيّة. وتلك هي النعمة: دخول في حياة الآب ليصير الإنسان ابنه، وفي حياة الابن ليصير الإنسان أخاه، وفي حياة الروح القدس ليصير هيكلاً له.
ثم إن هناك انسجاماً تاماً بين رغبة الإنسان في الاتحاد بالله من جهة والطريقة التي تحققت فيها تلك الرغبة من جهة أخرى. فالإنسان الذي يرغب في الاتحاد بالله يرغب في الواقع في أن يصير ابن الله ويتّحد بروح الله. وهذا ما تحقّق في عطاء الله ذاته لنا في تجسّد ابنه. فالابن المتجسّد أرسل إلينا روحه القدوس ليتّحد بِروحنا فنحيا من حياة الله، ونصير على مثاله أبناء الله.
إن الله، عندما أراد أن يُظهر ذاته للبشر، أرسل إليهم ابنه ليكون واحداً منهم في الزمن والتاريخ ويجعلهم أبناءه. فالتاريخ كلّه هو إذاً في اللاهوت المسيحيّ تاريخ تألّه الإنسان، منذ الخلق في بدء الزمن حتى عودة كل شيء إلى الله في نهاية الزمن.
وإرسال الروح على التلاميذ يوم العنصرة ليس أمراً ثانوياً بالنسبة إلى العمل الخلاصيّ الذي قام به الابن المتجسّد. فالابن من بعد قيامته يمنحنا أثمن ما لديه، يمنحنا روحه القدوس، الروح الذي يناله من الآب، الذي هو في آنٍ واحد روح الآب وروح الابن، وذلك ليُتمّ فينا وفي العالم أجمع عمل الخلاص الذي حقّقه الابن بتجسّده وموته وقيامته.
لا بدّ من التنويه بهذه النظرة الرائعة التي يعود كارل راهنر ليلتقي فيها مع أروع ما جاء عند الآباء الشرقيّين من لاهوت التألّه.
د) عمل الثالوث عبر التاريخ
إنّ عمل الثالوث عبر التاريخ وعلاقة الله بالإنسان لتأليهه على مدى الزمن، يوجزهما راهنر في اللوحة التالية:
مسيرة التاريخ عمل الروح الأصل المستقبل التاريخ السموّ التقدمة القبول الحقيقة المحبة تحت راية الوحدة
1) ان الله هو أصل الإنسان ومستقبله. انه أصله ومصدر كيانه، وفي آن معاً مستقبله المطلق، الذي يستطيع وحده ان يشبع رغباته ويملأ كيانه. وبين أصل الإنسان ومستقبله يسير التاريخ البشريّ الذي يتميّز بالحرّية المعطاة للإنسان.
2) بين التاريخ والسموّ مسافة تشير إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يختبر الله المتسامي اختباراً مباشراً وديعاً. ولكن ما يختبره من الله هو اختبار حقيقيّ يحقّق من خلاله نزعة كيانه نحو الإله المطلق المتسامي.
3) التقدمة- القبول: الإنسان كائن روحي. لذلك فهو يملك الحرية في أن يقبل الله الذي يهبه ذاته أو يرفضه. ان الله الذي يهب ذاته بمحبة لا يفرض على الإنسان أن يختاره، وإن كان يعلم أنّ قبول الإنسان عطاء الله هو السبيل الوحيد الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يحقّق كماله. فالله يهب ذاته بشكل يسمح للإنسان قبول هذا العطاء بكامل حريته.
4) الحقيقة- المحبة: إنّ ما ظهر لنا من الله هو الجوهر الإلهي بكلّ حقيقته. وظهور الحقيقة الإلهية هو ظهور في المحبة، أي انه ظهور لكائن روحيّ يمكنه مبادلة الله بالمحبة والإنسان، ذاك الكائن الروحي الذي لا يصل إلى ملء كيانه إلاّ بالمعرفة والمحبة، يتحقّق له هذا الأمر عندما يمتلئ من معرفة الله ومحبّته.
يدعونا راهنر إلى قراءة هذه اللوحة في الاتّجاه العموديّ. فالعمود الأوّل يدعوه "مسيرة التاريخ" مشيراً بذلك إلى أن الله يرغب في عطاء ذاته للإنسان، وإلى أنّ لك الرغبة هي أساس اصل الكون والتاريخ. فالله لأناس يعيشون في التاريخ مشدودين إلى الله الذي هو مستقبلهم المطلق، لذلك فان تقدمة الله ذاته للإنسان هي حتماً تقدمة ضمن التاريخ. أما تتويج مسيرة التاريخ بفكرة "الحقيقة"، فالقصد منه التأكيد على أن عطاء الله وأمانته ليسا مجرّد مظاهر، بل هما عطاء حقيقيّ وأمانة حقيقيّة، وأننا من خلالهما يتاح لنا التعرّف إلى الله في ملء حقيقته.
وتلك الحقيقة قد ظهرت لنا في التاريخ في شخص يسوع المسيح، ابن الله، الذي هو كلمة الله، ووحي الله، وعطاء الله الذاتيّ. فيه خلق كل شيء، وبه يتمّ خلاص كل شيء. هو الأول والآخر، البداية والنهاية. وفيه يصير الكون كلّه تاريخ خلاص ورحمة ونعمة.
إن مسيرة التاريخ يقابلها في العمود الثاني "عمل الروح" فالروح هو الذي يظهر للإنسان محبة الله، وبالروح يعرف الإنسان ان الله هو مستقبله المطلق، وأنه في الله وحده يمكنه تحقيق نزعته الفطريّة إلى السموّ. كما أن الروح هو الذي يدخل إلى أعماق الإنسان ليحمله على قبول تقدمة الله- والإجابة على محبة الله بمحبة متبادلة.
هكذا يبدو لنا سرّ الثالوث الأقدس سراً خلاصياً يجّرعن عمل الله الثالوث في تاريخ الإنسان، ويقود الإنسان إلى كلا خلاصه في الله. وهذا العمل الإلهي يتمّ تحت راية الوحدة، مع تمييز الأقانيم في تلك الوحدة. إنّه الإله الواحد الذي يهب ذاته لنا في الابن والروح، في الابن الذي هو كلمة الآب أي الحقيقة الإلهية، وفي الروح القدس، الذي هو روح الآب وروح الابن، أي المحبة الإلهية.
2- مولتمن (Jurgen Moltmann)
ينتقد مولتمن طريقة راهنر في التعبير عن الأقانيم الإلهية، ولاسيّمَا تسميته الأقانيم الثلاثة "طرق وجود" للإله الواحد. فيرى في هذا التعبير خطر الانزلاق نحو الشكلانيّة.
لا ريب في أن التعبير اللاهوتي عن سرّ الثالوث يجب أن يجمع بين أمرين قد يبدوان متناقضين: التوحيد والتثليث، أي إنّ الله واحد في ثلاثة أقانيم. ففي تأكيد وحدانيّة الله يجب المحافظة على تثليث الأقانيم، وفي تأكيد تثليث الأقانيم يجب عدم انتقاص وحدانيّة الله. فيسأل مولتمن: ما هو العنصر الذي يجعل الله واحدا؟ ويجيب أن اللاهوت حتى الآن قد رأى هذا العنصر في أحد أمرين:
إمّا في الطبيعة الواحدة والجوهر الواحد
وإنّما في الذات الإلهية الواحدة.
كما أنّ هناك نظرتين: احداهما في الأقانيم الإلهية الثلاثة، ثم تؤكّد أنّ لها طبيعة إلهيّة واحدة. وهذه هي نظرة الكتاب المقدس. وتنطلق الثانية من الذات الإلهية الواحدة، ثم تبحث في تحقيق هذه الذات في الأقانيم الثلاثة. وهذه هي نظرة التفكير الفلسفيّ الذي يمكنه التوصّل إلى وجود ذات إلهيّة واحدة، من خلال ضرورة وجود المطلق، الذي لا يمكن أن يكون إلا واحداً.
ء) أمّا مولتمن فيختار طريقاً ثالثاً، فيقول:
"من جهة النظر اللاهوتيّة، يبدو الانطلاق من الكتاب المقدس، أي من الأقانيم الثلاثة؛ ثم الانتقال إلى البحث في وحدة هذه الأقانيم، أجدى من الانطلاق من المسلّمة الفلسفية، التي تفترض وحدة الذات الإلهية المطلقة، ثم تنتقل إلى البحث في ما يقوله الكتاب المقدس عن الأقانيم الثلاثة. ففي النظرة الأولى، تتضمّن وحدة الأقانيم موضوع اكتمال الثالوث في نهاية التاريخ. وتلك الوحدة يجب أن نعتبرها منفتحة مضيافة وقابلة لأن يدخل فيها آخرون ويأتلفوا معها. أمّا إذا انطلقنا من تجانس الذات الإلهية الواحدة، فيصعب علينا تصوّر انفتاح تلك الذات الإلهية الواحدة على غيرها. لأنّ مثل هذا الانفتاح قد يفقدها تجانسها". ثم يتابع:
"في بحثنا عن مفهوم للوحدة يتلاءم والشهادة الكتابيّة عن الإله الثالوث الذي يتّحد بذاته، يجب أن ندع جانباً مفهوم الجوهر الواحد ومفهوم الذات الواحدة. فلا يبقى لنا سوى القول باتّحاد الأقانيم في ما ينهم، أو باتّحاد الإله الثالوث. ذلك أن مفهوم الاتّحاد يعني وحدة منفتحة ويمكن الاتصال بها. الإله الواحد هو الله متّحد. وهذا يفرض في الله تمييزاً شخصياً، وليس فقط شكليًّا. فالأشخاص وحدهم يمكنهم أن يكونوا متحدين، وهذا لا يصحّ في "طرق الوجود" (كما يقول راهنر). إن اتّحاد الأقانيم الإلهية لا يحتاج إلى أن يبرهن عنه بوحدة الجوهر الإلهيّ، ولا بوحدة الذات الإلهيّة. إن اتّحاد الثالوث هو أحد المعطيات التي تتضمّنها شركة الآب والابن والروح القدس.
"إنّ الآب والابن والروح القدس ليسوا فقط متميّزين أحدهم عن الآخر، بل هم على القدر ذاته متحدون أحدهم مع الآخر وأحدهم في الآخر. فالقول إنّ الله أقانيم، والقول إن الله شركة هما جانبان لأمر واحد. لذلك إنّ مفهوم الأقنوم الإلهي يجب أن يتضمّن مفهوم الاتحاد، وكذلك يجب أن يتضمّن مفهوم الوحدة الإلهية مفهوم الأقانيم الثلاثة.
"ينتج من ذلك أنّ عنصر الوحدة في الله يجب ألاّ يكون في تجانس الطبيعة الإلهية الواحدة، ولا في الذات المطلقة الواحدة، ولا في أحد أقانيم الثالوث. بل يجب أن يدرك في تداخل الأقانيم الإلهيين أحدهم في الآخر.
إن لم نر وحدة الله في اتحاد الإله الثالوث، يصعب علينا اجتناب خطري الآريوسية والصابيليّة".
أمّا تمييز الأقانيم أحدهم عن الآخر، فيراه في علاقة كل منهم بالآخر ضمن الثالوث. فالآب هو المصدر الذي منه يولد الابن، ومنه ينبثق الروح القدس، فالآب لا يدعى آبا لأنه خلق الكون، بل لأنّه أب لابن وحيد. والخلق هو عمل الأقانيم الثلاثة، "الآب يخلق السماء والأرض بالابن في قدرة الروح القدس".
أمّا الروح القدس فإنّه، من حيث وجوده الإلهي، ينبثق من الآب وحده. وهذا القول هو تأكيد لألوهيّة الروح القدس. أما من حيث صورتّه ضمن الثالوث، فإنّه يأخذ تلك الصورة من الآب والابن، أي ان له علاقة بالآب والابن. لذلك يدعى "روح الآب" و"روح الابن". فهناك فرق بين الأمرين يجب المحافظة عليه. يقول مولتمن:
"ان الكنيسة الغربية، بإضافتها "والابن" على قانون الإيمان، قد أزالت هذا الفرق، وكأن هناك مصدرين لوجود الروح القدس: الآب والابن. وذلك لا يمكننا هنا أن نضيف ونجمع، كما تفعله صيغة "والابن"، التي تترك في الغموض ما يأتي من الآب وما يأتي من الابن. بل يجب المحافظة على الواقعيّة، فيكتفي بتحديد الأمرين الواحد تلو الآخر: أي أوّلاً علاقة الروح القدس بالآب، ثم علاقة الروح القدس بالابن".
وينتقد مولتمن استعمال لفظة "علّة" () عند الآباء الكباذوكيّين، بالنسبة إلى علاقة الآب بالابن والروح. فتلك اللفظة أخذها الآباء عن فلسفة أرسطو، واستعملوها بالمعنى ذاته لعلاقة الآب بالابن، فقالوا إنّ الآب هو علّة الابن، وملأ الآب بالروح القدس، فقالوا أيضاً: إنّ الآب هو علّة الروح القدس. وفي هذا الاستعمال لم يعد أيّ تمييز بين ولادة الابن وانبثاق الروح القدس.
والحال أنّ الروح القدس ينبثق منذ الأزل من الآب، لا من حيث إنّ الآب هو المبدأ الأوحد للالوهة، بل من حيث إنه منذ الأزل آب للابن. لا شك أنّ هذا التعبير الذي يركّز على "العلّة الواحدة" يمكننا فهمه انطلاقاً من محاربة عقيدة إضافة "والابن" الملتبسة، ولكنّه يتضمّن خطراً مماثلاً للخطر الذي يحاربه.. وهو خطر الانزلاق إلى التبعيّة، التي تعتبر الآب وحده إلهاً بالمعنى الحصريّ والابن والروح تابعين له. لذلك من الأنسب إبعاد مفهوم "العلّة الأولى" عن عقيدة الثالوث الأقدس، والاكتفاء بعرض العلاقات بين الأقانيم الثلاثة، ومن تلك العلاقات تنتج حتماً أوّليّة الآب".
|
|
|
|