24 - 01 - 2013, 12:57 PM
|
رقم المشاركة : ( 16 )
|
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس
الفصل الثاني
الثالوث الأقدس في تعاليم الآباء والمجامع المسكونيّة
أوّلاً- في القرنين الأول والثاني
1- الثالوث الأقدس في سرّي المعمودية والافخارستيّا
تتّضح لنا عقيدة الكنيسة الأولى في الثالوث الأقدس ليس فقط في تعاليم الآباء بل في ممارسة الأسرار المقدسة، ولا سيّمَا سرَّي المعمودية والإفخارستيّا. إنّ إيمان الكنيسة الأولى بالثالوث الأقدس قد انطلق من خبرة الرسل الذين عاشوا مع المسيح ابن الله واختبروا عمل الروح القدس في المسيح وفيهم من بعد قيامه المسيح. وهذا الاختبار هو الذي نقلوه إلى جميع المؤمنين بالمسيح عبر الأسرار المقدّسة، ولا سيّمَا سرَّي المعمودية والافخارستيّا. فمَا آمنوا به عبّروا عنه في الأسرار. لذلك نجد علاقة وثيقة بين كرازة الإيمان وممارسة الأسرار. وتلك العلاقة واضحة في وصية يسوع لتلاميذه بعد قيامته: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" متى 28: 19- 20). فالتعليم يسبق المعمودية، والمعموديّة تعبّر عن قبول التعليم وصدق الإيمان. والعلاقة ذاتها نجدها في إنجيل مرقس: "إذهبوا في العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، فمن آمن واعتمد يخلص" (مر 16: 15- 16). وهنا أيضاً التعليم والإيمان يسبقان المعمودية.
ء) المعمودية
لذلك ينطلق تعليم الكنيسة الأولى في عقيدة الثالوث الأقدس من الكرازة التي كانت تهيّئ الموعوظين لتقبّل سرّ المعمودية. ففي تلك الكرازة كانت تفسّر لطالبي العماد معاني هذا السر وأبعاده ومضمون الإيمان الجديد الذي سوف يعتنقونه. وقبل المعمودية وفي طريقة منح السر ذاتها، كان يُطلب من المعتمدين إعلان إيمانهم.
نقرأ في "العقليد الرسولي" لهيبوليتوس الروماني، الذي كُتب سنة 215، أنّ الأسقف، أو الكاهن، يقف بجوار الماء، بينما ينزل الشماس في الماء مع طالب العماد. ويضع الأسقف يده على رأس المعتمد، ويسأله:
- "هل تؤمن باله الآب القدير؟"، فيجيبه المعتمد: "إنّي أومن به"، فيغطسه إِذّاك في الماء مرة أولى. ثم يضع من جديد يده على رأسه ويسأله ثانية:
- "هل تؤمن يسوع المسيح ابن الله، الذي وُلد بفعل الروح القدس من مريم العذراء، ومات وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، وجلس عن يمين الآب، وسوف يأتي ليدين الأحياء والأموات؟"، فيجيبه المعتمد: "إنّي أومن به"، عندئذ يغطسه في الماء مرة ثانية. ثم يسأله ثالثة:
- "هل تؤمن بالروح القدس، وبالكنيسة المقدسة، وبقيامة الجسد؟"، فيجيب المعتمد: "إنّي أومن". وإذّاك يغطسه مرة ثالثة. ثم يخرج المعتمد من الماء.
وتلك العادة كانت منتشرة في معظم الكنائس المسيحية، كما تشير إلى ذلك مؤلفات يوستينوس، وديونيسيوس الاسكندريِّ، وترتوليانوس، وكبريانوس، وسِيَر الشهداء التي تعود إلى القرن الثالث.
إن إعلان الإيمان هذا، في أثناء رتبة المعمودية، هو شهادة لموجز العقيدة المسيحية، و"قانون الإيمان" الكنيسة الأولى. ويبدو لنا الاعتراف بالثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، الركن الأساسي في تلك العقيدة.
ب) الافخارستيا
في الافخارستيا، سرّ الشكر، تحتفل الكنيسة بعظائم الله وتشكر له كلّ ما صنعه لأجلنا، ولا سيّمَا إرساله إلينا ابنه يسوع المسيح وروحه القدوس. لذلك يرد ذكر الأقانيم الإلهية الثلاثة في إقامة. كل افخارستيا، لدى تقدمة القرابين وتقديسها (ما يُدعى باليونانية الأنافورا).
يروي هيبوليتوس الروماني في التقليد الرسولي كيف كانت الكنيسة الأولى تحتفل بهذا السر:
"يقدّم الشمامسة القرابين إلى الأسقف، فيضع يده عليها، ويتلو عليها الصلاة التالية: "نرفع لك الشكر، يا الله، بابنك الحبيب يسوع المسيح، الذي أرسلته إلينا في تمَام الأزمنة مخلّصاً وفاديًا ومبلغًا إيانا ارادتك". وبعد ذكر كلام الرب على الخبز والخمر، يتابع قائلاً: "نطلب إليك أن ترسل روحك القدوس على تقدمة الكنيسة المقدّسة، وأن تجمع النفوس لتوطيد الإيمان في الحق". ويختم بالتمجيد: "ولذا نريد أن نسبّحك ونمجّدك بابنك يسوع المسيح، الذي به نرفع إليك التمجيد والإكرام، أيها الآب والابن والروح القدس، في الكنيسة المقدّسة، الآن وإلى دهر الداهرين. آمين".
على هذا المثال كانت تُتلى كل صلاة افخارستيّة: فالصلاة تتوجّه إلى الآب، الذي أرسل ابنه المخلّص، وتطلب إليه الآن أن يرسل روحه القدوس على القرابين ليكرّسها ويجعلها جسد المسيح ودمه، وكل الشعب كله ليقدّسه ويوطده في الإيمان ويجمعه في الوحدة.
2- الثالوث الأقدس في تعليم الآباء
لم يكتف الآباء في تعليمهم بترداد. أقوال العهد الجديد في الثالوث الأقدس، بل حاولوا توضيح علاقة الأقانيم بعضها ببعض، وذلك في تفسير العقيدة المسيحية للمسيحيين، والدفاع عنها إمّا ضد الوثنيين وإمّا ضد الغنوصيين.
ء) الآباء المناضلون
يستقي الآباء المناضلون دفاعهم عن الإيمان المسيحي وعقيدتهم اللاهوتية من الكتاب المقدس ومن إيمان الكنيسة الأولى. إلاّ أنهم يعبّرون عن هذا الإيمان بتعابير مستقاة من الفلسفة اليونانية، وذلك في سبيل إيصال الإيمان المسيحي إلى اليونانيين المتشرّبين تلك الفلسفة.
لكن التعبير عن الإيمان المسيحي بمفاهيم الفلسفة اليونانية له مخاطره، اذ يمكن أن يؤثّر اللجوء إلى تلك المفاهيم على العقيدة نفسها. ولم يقو اللاهوت المسيحي على إزالة كل تلك المخاطر إلا تدريجيًّا.
لذلك نلاحظ عند الآباء المناضلين، من أمثال القديس يوستينوس، وتاتيانوس، وأثيناغوراس، والقديس ثيوفيلوس أسقف أنطاكية، بعض الالتباس في تأكيد أزليّة الابن والروح القدس ووحدتهما في الجوهر مع الآب. وقد تأثروا، في هذا الموضوع، بالنظرة الافلاطونية لله التي تضع بين الله الأسمى والإنسان قافلة من الكائنات التي تحتلّ مرتبة وسطًا بين الله والإنسان، لأن الله، في نظرها، بعيد كلّ البعد عن العالم المخلوق، ولا يمكنه أن يتصل به إلا بواسطة تلك الكائنات. والكلمة (باليونانية "لوغوس") هي أعظم تلك الكائنات، وبالكلمة خلق الله العالم. فالخطر، في اللاهوت المسيحي، يكن في اعتبار ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وكلمة الله، كائنًا وسطًا بين الله والإنسان. وفي هذا الموضوع لا تخلو كتابات الآباء المناضلين من الالتباس. يقول مثلاً يوستينوسِ:
إنّ ابن الله، الوحيد الذي يدعى ابنًا بالمعنى الحقيقي، والكلمة الذي، قبل كل الخلائق، كان مع الله، وولد عندما صنع الآب، به، في البدء، كل شيء ونظّمه" (دفاع 2: 1، 2).
فكأن كلمة الله لم يولد الا عندما صنع الله الكون. وكذلك يقول ثيوفيلوس:
"لمّا أراد الله أن يصنع ما قرّره، ولد هذا الكلمة، لافظاً إيّاه بكر كل خليقة، اذ لم يحرم ذاته من الكلمة، بل ولد الكلمة، وكان بتحدّث دومًا معه" (كتاب إلى اوتوليكوس 2: 22).
يميّز ثيوفيلوس بين الكلمة الباطني، القائم منذ الأزل في الله، الذي هو فكر الله وعقل الله وعلم الله؟ والكلمة الملفوظ أو المنطوق به، الذي ولده الآب لمّا لفظه ونطق به قبل الخلائق، وبمساعدته صنع الكون:
"ان الله، اذ فيه كلمته الباطني، ولده مع حكمته، لافظًا إيّاه قبل كل شيء" (2: 10). "قبل ان يخلق أيّ شيء، كان الكلمة الباطني موجودًا على الدوام في قلب الله. لقد كان له مشيرًا، هو عقله وفكره" (2: 18).
يؤكد هؤلاء الآباء الوهية الابن والروح، اذ يميّزون بين "صنع الخلائق"، وولادة الابن، ووحدة الجوهر الإلهي بهن الآب والابن والروح القدس. يقول اثيناغوراس:
"إنّ ابن الله هو كلمة الآب بالفكر والقدرة. اذ فيه وبه كوّن كل شيء، لأن الآب والابن هما واحد فالابن هو في الآب، والآب هو في الابن في وحدة الروح وقدرته. إنّ ابن الله هو عقل الآب وكلمته. واذا أردتكم، بحكمتكم السامية، أن تعرفرا ما معنى "الابن"، سأقوله لكم ببضع كلمات: إنه وُلد من الآب، لا بمعنى أنه صُنع. فالله، منذ البدء، هو عقل أزلي، وبمَا أنه عاقل منذ الأزل، كان معه كلمته (الذي هو عقل الله)".
سترفض الكنيسة في ما بعد التمييز بين الوجودين لكلمة الله: الوجود الباطني في الله، والوجود الخارجي الذي حصل عندما لفظ الله الكلمة ونطق به. ففي هذا التمييز التباس بالنسبة إلى تأكيد ازلية الكلمة، وخطر الانحراف نحو الاعتقاد بتطوّر كلمة الله وتبدّله من حال إلى حال. إلا أن لاهوت الآباء المناضلين في الثالوث الأقدس قد سار منذ البدء في الاتجاه الصحيح، الذي يؤكّد في آن معًا تثليث الأقانيم ووحدة الجوهر. وهذا ما سيعبّر عنه بوضوح أكثر القديس ايريناوس.
ب) القديس إيريناوس، أسقف ليون (140- 202)
توسّع ايريناوس في عقيدة الثالوث الأقدس في كتابيه: "ضد الهراطقة"، و"تبيين الكرازة الرسولية". فالكتاب الأوّل موجّه ضد الغنوصيين الذين كانوا يفرّقون بين الإله الأسمى البعيد عن الكون والذي لا علاقة له بأيّ من الكائنات، والإله الأدنى الذي انبثق عن الإله الأسمى، وسقط بالتالي من جوهر الالوهة، وبه خلق الإله الأسمى الكون. فالخالق هو إذًا، في نظرهم، الإله الأدنى. والكتاب الثاني هو عرض بسيط شعبي للعقيدة المسيحية وتبيين أسسها الرسولية.
معرفة الله: يؤكد إيريناوس أنّ الإله الأسمى هو نفسه الإله الخالق، وأنه لا وجود لآلهة أدنين سقطوا من جوهر الالوهة. فالإله واحد، وهذا الإله قد عرّف ذاته لجميع الناس معرفة أولى بواسطة الخلق. ثم أوحى ذاته تدريجيًّا بواسطة الأنبياء، وأخيرًا بواسطة ابنه وكلمته يسوع المسيح.
أما بشأن إمكانية توصّل الناس إلى معرفة الله، فكان الغنوصيون يقسمون الناس إلى ثلاث فئات: المادّيين، أبناء الشيطان، الذين لا يمكنهم الوصول إلى معرفة الله، والنفسيين، أبناء الإله الأدنى، الذين يرتفعون بالمعرفة ثم يسقطون عنها، وأخيرًا الروحيين، أبناء الله، الذين يعرفون الله منذ الآن معرفة ثابتة بحَدْسهم الطبيعي. وهؤلاء فقط يمكنهم القول أنهم يعرفون الله معرفة كاملة.
جوابًا على هذه النظرة يؤكّد إيريناوس أنّ جميع الناس متساوون إزاء سر الله، الذي لا يمكن كشفه كشفًا تامًا بواسطة العقل، بل بواسطة الوحي الذي أتانا به ابن الله.
والكلمة، اذ يظهر الله للناس، لا يظهره بشكل يتيح لهم رؤيته رؤية مباشرة، وذلك لئلاّ يصل الإنسان إلى احتقار الله، وليكون دومًا أمامه هدف يحثّه على التقدّم" (ضد الهراطقة 4: 20، 7).
وحتى في السماء لن يزول هذا التقدّم في معرفة الله. يقول إيريناوس:
"ان كانت هناك، حتى في عالمنا المخلوق، أمور يحتفظ بها الله وأمور يستطيع علمُنا البلوغ إليها، فهل من الغريب أن نجد في الكتاب المقدس الذي هو روحي بمجمله، مسائل يمكننا حلّها بنعمة الله، ومسائل أخرى يحتفظ بها الله لنفسه، ليس في هذا العالم وحسب، بل أيضاً في العالم الآخر، وذلك لكي يبقى الله دوما يعلَمنا، ويظلّ الإنسان على الدوام يتعلّم على يد الله" (ضد الهراطقة 2: 28، 2- 3).
* المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس
يؤكّد ايريناوس أنّ معرفة الله لدى المسيحيين تبدأ بالمعمودية التي ينالونها على اسم الآب والابن والروح القدس. يقول في "تبيين الكرازة الرسولية":
"إليكم ما يؤكده لنا الإيمان، كما سلّمنا إياه الكهنة، تلاميذ الرسل. انه يذكّرنا أوّلاً أننا نلنا المعمودية لمغفرة الخطايا باسم الله الآب، وباسم يسوع المسيح ابن الله الذي تجسّد ومات وقام، وفي روح الله القدوس.. عندما نولد من جديد بالمعمودية التي تُعطى لنا باسم هذه الاقانيم الثلاثة، نغتني في هذه الولادة الجديدة من الخيرات التي في الله الآب بواسطة ابنه، مع الروح القدس. فالذين يعتمدون ينالون روح الله، الذي يعطيهم للكلمة، أي للابن، والابن يأخذهم ويقدّمهم للآب، والآب يمنحهم عدم الفساد. وهكذا بدون الروح، علينا رؤية كلمة الله، وبدون الابن لا يستطيع أحد الوصول إلى الآب. فان معرفة الآب هي الابن، ومعرفة ابن الله نحصل عليها بواسطة الروح القدس. ولكن الابن هو الذكي من شأنه توزيع الروح، حسب مسرّة الآب، على الذين يريدهم الآب، وعلى النحو الذي يريد" (الكرازة الرسولية 3 و7).
* الإيمان بالثالوث الأقدس أساس خلاصنا
يتّضح لنا من خلال النص السابق أنّ الإيمان بالثالوث الأقدس لا يمكننا البلوغ إليه إلاّ انطلاقًا من تدبير الله الخلاصي. لذلك يعتبر هذا الإيمان أساس خلاصنا وركن بنائه. يقول في كتابه ضد الهراطقة:
"هوذا تعليم إيماننا المنهجي وأساس خلاصنا وركن بنائه: إنّه الله الآب الذي لم يُخلق ولم يولد ولا يرى، الإله الأوحد، خالق كل شيء، هذا هو البند الأول من إيماننا. أما البند الثاني فهو التالي: إنّه كلمة الله، وابن الله، ربنا يسوع المسيح، الذي ظهر للأنبياء في الشكل الذي وصفوه به في نبؤاتهم ووفق تدبير الآب الخاصّ، الكلمة الذي كوّن كلّ شيء، والذي في ملء الأزمنة، صار إنسانًا ليعيد كلَ شيء ويضبطه، فوُلد من البشر، وسار منظورًا وملموسًا ليبيد الموت ويظهر الحياة، ويعيد الوحدة بين الله والإنسان. أما البند الثالث فهو الروح القدس الذي نطق بالأنبياء، وعلّم آباءنا الأمور الإلهية، وقاد الصديقين في طريق البر. وهو الذي، في ملء الأزمنة، أفيض بشكل جديد على البشرية، فيمَا كان الله يجدّد الإنسان على الأرض كلّها" (الكرازة الرسولية 3 و6)
وهذا الإيمان هو إيمان الكنيسة الجامعة منذ الرسل:
"إن الكنيسة، وان تكن منتشرة في المسكونة كلّها حتى أقاصي الأرض، قد تسلّمت من الرسل وتلاميذهم الإيمان بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض والبحار وكل ما فيها؛ وبيسوع المسيح الواحد، ابن الله، الذي تجسّد لأجل خلاصنا؛ وبروح قدس واحد نطق بالأنبياء معلنًا تدابير ربنا الحبيب يسوع المسيح، ومجيئه وميلاده البتولي وآلامه وقيامته من بين الأموات، وصعوده بالجسد إلى السماوات، ومجيئه الثاني عندما سيظهر من السماوات، عن يمين الآب، ليعيد كلّ شيء ويقيم كلّ جسد من جميع البشر، لكي تجثو أمام ربنا يسوع المسبح وإلهنا ومخلّصنا وملكنا، وفق إرادة الآب الذي لا يُرى، كل ركبة ممّا في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، ويعترف به كلّ لسان..
هذه هي الكرازة التي تسلّمتها الكنيسة. وهذا هو إيمانها، على ما قلنا، ومع أنها منتشرة في العالم أجمع، فهي تحافظ على تلك الكرازة باعتناء، كما لو كانت تقيم في منزل واحد، وتؤمن بها باتّفاق، كما لو كان لها نفس واحدة وقلب واحد. وبوحدة رأي تكرز بها وتعلّمها وتسلّمها، كما لو كان لها فم واحد" (فقد الهراطقة 1: 10، 2).
ويعلن ايريناوس ضد الغنوصيين، الساعين وراء معرفة الله جديد يكتشفون سرّه بتنظيرهم العقليّ، أن لا الله إلاّ الإله الذي ظهر لنا في المسيح وفي الروح القدس:
"عندما سيبلغ كل شيء كماله في السماء، لن نرى آبا آخر غير الآب الذي نودّ أن نراه..، ولن نشاهد مسيحًا آخر ابن الله غير ذاك الذي ولد من مريم العذراء، وتألم، الذي به نؤمن وإيّاه نحب..، ولن نحصل على روح قدسٍ آخر غير ذاك الذي معنا والذي يصرخ فينا: "أبّا أيّها الآب. فبهم سنواصل السعي والتقدم، متمتعين بمواهب الله، ليس بعد من خلال الرموز وكما في مرآة، بل وجهًا إلى وجه" (ضد الهراطقة 4: 9، 2).
* وحدة الجوهر الإلهي والطبيعة الإلهية
لا يكتفي إيريناوس بذكر الأقانيم الثلاثة، بل يوضح وحدتها في الألوهة.
فيقول عن الآب والابن: "الآب ربّ، والابن ربّ، الآب إله والابن إله، لأن الذي ولد من الله هو إله. وهكذا، وإن كان هناك، حسب تدبير فدائنا، ابن وآب، نبيّن أن ليس إلاّ إله واحد، في جوهر كيانه بالذات وطبيعة هذا الكيان" (الكرازة الرسولية، 47).
ويؤكّد ألوهيّة الابن: "إنّ الابن، الذي هو موجود دومًا مع الآب، يوحي الآب منذ البدء للملائكة ورؤساء الملائكة والقوات ولكل من يريد الله أن يوحي له ذاته" (ضد الهراطقة 3: 9)، "لقد بيّنّا بوضوح أن الكلمة موجود منذ البدء لدى الله.. وهكذا أرغمنا على الصمت أولئك الذين يقولون: بمَا أن المسيح ولد، فهذا يعني أنّه لم يكن قبلاً. فقد برهنّا أن وجوده لم يبدأ بولادته، بمَا أنه موجود دائمًا لدى الآب" (3: 18، 1).
لا يتكلم كثيرًا إيريناوس عن ألوهيّة الروح القدس، لأن موضوع النقاش في الكنيسة الأولى لم يكن الروح القدس بل الابن. ومع ذلك بشير إلى ألوهية الروح القدس في ذكر وحدة العمل الإلهي بين الآب والابن والروح القدس:
"الآب يسرّ ويأمر، والابن يعمل ويخلق، والروح يغذّي وينمي، والإنسان يتقدّم رويدًا ويرتقي إلى الكمال، أي إنه يتقرّب من الله غير الخلوق، لأنّ من هو غير مخلوق، فهو كامل، وهذا هو الله" (ضد الهراطقة 4: 38).
غن الروح يغذّي الإنسان بغذاء الله وينميه في معرفة الابن والآب. فهو واحد مع الابن والآب. ويدعو إيريناوس الابن والروح "اليدين" اللتين بهما خلق الآب العالم ولا يزال يعمل بهما متابعًا عمل خلاص الإنسان ليصل به إلى ملء حياة الله:
"إنّ الإنسان، الذي جبلته في البدء يدا الله، أي ابنه وروحه، يصير في كل وقت على مثال الله وصورته" (ضد الهراطقة 5: 28، 3).
لقد رأى البعض في تشبيه "اليدين" انتقاصا لوحدانية الله، أو عدم مساواة بين الأقانيم الإلهية. إلاّ أن ايريناوس لا يرى في هذا التشبيه سوى صورة للتأكيد على وحدة الأقانيم الإلهية في الطبيعة الإلهية وفي عمل الله في الكون. وكذلك القول عن العبارات التالية التي توضح عمل الأقانيم الثلاثة في خلاص الإنسان:
"إن الرب قد أفاض روح الآب على الإنسان ليوحّده بالله ويدخله في شركة معه، بمنحه الله للإنسان بالروح القدس" (ضد الهراطقة 5: 6، 6).
"بالروح يرتقي التلاميذ إلى الابن، وبالابن إلى الآب، والابن يسلّم عمله إلى الآب" (ضد الهراطقة 5: 36، 8).
"إن الذين يحملون في ذواتهم روح الله يُقادون إلى الكلمة، والابن يأخذهم ويقدّمهم إلى أبيه، والآب يمنحهم عدم الفساد" (الكرازة الرسولية، 7).
لا نجد أروع من هذه التعابير لتفسير عمل الأقانيم الثلاثة في تاريخ الخلاص، بيد أن إيريناوس يقتصر في لاهوته في عقيدة الثالوث الأقدس على هذا العمل، دون الخوض في موضوع كيان الله في ذاته وعلاقة الأقانيم الثلاثة ضمن حياة الله الباطنيّة.
|
|
|
|