عرض مشاركة واحدة
قديم 24 - 01 - 2013, 12:54 PM   رقم المشاركة : ( 4 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس




4- الحياة بالروح

يتوسّع العهد الجديد، ولا سيّمَا بولس الرسول، في الحياة بالروح، التي يجب أن يحياها أبناء الله: "إن كنّا نحيا بالروح فلنسلكنّ أيضاً بحسب الروح" (غلا 5: 25). أي إن كانت حياتنا هي من الروح، فينبغي أن يكون سلوكنا بحسب الروح. "إن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد حرّرك من ناموس الخطيئة والموت" (رو 8: 2). فالروح الذي أفيض في قلب المسيحي يصير مبدأ حياته. وكما أنّ الشجرة الصالحة تنتج ثمرًا صالحًا، هكذا الروح الذي يملأ قلب المسيحي من الداخل يثمر فيه ثمارًا صالحة: "أمّا ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام، وطول الأناة، واللطف والصلاح، والأمانة والوداعة والعفاف" (غلا 5: 22، 23).

وهذه الأعمال لا تُفرض على الإنسان من الخارج، بل تنبع من داخله بذاتيّة وحربّة. لا لأنّه "حيث يكون روح الرب، فهناك الحرّية" (2 كو 3: 17). لا شكّ أنّ الإنسان لا يصنع عندئذ إرادته بل إرادة الله. ولكن، بالروح القدس الذي أرض في قلبه، الري سكن فيه، الذي صار مبدأ أعماله، تصير إرادة الله إرادته، ورغبة الله رغبته.

وهذا لن يحدث دون موت وعذاب. فعلى المسيحي، حسب قول بولس، أن يموت مع المسيح ليستنّى له أن يقوم معه إلى حياة الروح: "لقد قمتم مع المسيح، فاطلبوا إذن مما هو فوق، حيث يقيم المسيحٍ جالسًا عن يمين الله.. لأنّكم قد متّم للعالم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. فأميتوا إذا أعضاءكم الأرضية: الزنى والنجاسة والأهواء والشهوة الرديئة والطمع" (كو 3: 1- 5). "أسلكوا بالروح، فلا تقضوا شهوة الجسد. فإنّ الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد.. فإنْ كنتم تنقادون للروح فلستم بعد تحت الناموس.. لأنّ الذين هم للمسيح يسوع صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غلا 5: 16- 24).

إنّ هذا الموت عن الخطيئة هو الولادة الجديدة بالروح. فبالروح يصير المسيحي "إنسانًا جديدًا"، "إنسانًا روحيًا" (1 كو 2: 15)، وبالروح يحبّ، ويؤمن، ويرجو، ويصلّي، ويغلب العذاب والموت، ويحيا في الفرح والسلام.

ء) روح المحبة

المحبة أوّلاً هي حياة الله، هي روح الله. والمسيحي الذي يمتلئ من روح الله يمتلئ من المحبة، "لأنّ محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه" (رو 5: 6). والمحبة هي أوّلاً محبة الله لنا. والروح الذي يملأنا من المحبة التي أحبّنا بها الله يصير فينا ينبوع محبّة لله وللآخرين. فالروح ليس كالناموس، لأنّ الناموس يقيّد بأحكامه ووصاياه، ولكنّه لا يمنح أي قوّة لممارسة تلك الوصايا والأحكام. أمّا الروح فيعلّمنا كيف نحب، ويمنحنا القوّة على المحبة. ومن يحب يميّز ما يجب فعله: "لا تتشبّهوا بهذا العالم، بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد عقلكم، لكي يتهيّأ لكم أن تميّزوا ما مشيئة الله، وما هو صالح وما يرضيه وما هو كامل" (رو 12: 3)؛ "لتكن محبتكم على نموّ صاعد في المعرفة والإدراك التام، حتى يكون في وسعكم أن تميّزوا القيم الحقّة" (في 1: 9).

ب) روح الإيمان.

المسيحي هو من يؤمن أنّ محبّة الله قد أُفيضت في قلوبنا بيسوع المسيح. فالروح القدس يقود إلى الإيمان بالمسيح. لذلك "ما من أحد يستطيع أن يقول "يسوع ربّ" إلاّ بالروح القدس" (1 كو 2: 3). "بذلك تعرفون روح الله: أنّ كلّ روح يعترف بأنّ يسوع المسيح قد أتى في الجسد، هو من الله، وكلّ روح لا يعترف بيسوع ليس من الله، بل هذا روح المسيح الدجّال.." (1 يو 4: 2، 3).

لذلك يدعو يسوعُ الروحَ القدس "روح الحق" (يو 16: 13)، وينبئ تلاميذه بأنّ هذا المحامي "متى جاء فإنّه يفحم العالم بشأن الخطيئة والبِرّ والدينونة. فبشأن الخطيئة، لأنَّهم لم يؤمنوا بي. وبشأن البر، لأنّي منطلق إلى الآب ولا تروني من بعد. وبشأن الدينونة، لأن زعيم هذا العالم قد دين" (يو 16: 8- 11). فالروح يفحم العالم أوّلاً بشأن الخطيئة، أي إنّه يظهر للعالم خطيئته التي قادته إلى صلب المسيح، ثم يبيّن للعالم برّ الله: فالله قد برّر المسيح، إذ أقامه وأصعده إلى السماء. وكلّ إنسان يمكنه الحصول على هذا البرّ بالإيمان بالمسيح وقبول المغفرة التي منحنا إيّاها على الصليب. وأخيرًا يشهد لقيامة المسيح وانتصاره على قوى الشر. وتلك هي دينونة العالم. وهكذا يُدخِل الروحُ القدس المؤمنين والعالمَ إلى سرّ المسيح وموته وقيامته.

الكنيسة الأولى كانت تدعو سر المعمودية سر الاستنارة. وبولس الرسول يرى أنّ الإنسان الروحي يستطيع أن يرى ما لا يراه الإنسان الطبيعي:

"لقد أعلنه لنا الله بروحه. لأنّ الروح يفحص كلّ شيء حتى أعماق الله. فمَنْ مِن الناس يعرف ما في الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه؟ فهكذا أيضاً، ليس أحد يعرف ما في الله إلاّ روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لكي نعرف ما أنعم به علينا الله من النعم. ونتكلّم عينها لا بأقوال تعلّمها الحكمة البشرية، بل بما يعلّمه الروح، معبّرين بالروحيات عن الروحيات. إن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما هو من روح الله، فإنّه جهالة عنده، وليس في وسعه أن يعرفه، لأنّه بالروح يُحكَم فيه. أمّا الإنسان الروحي فإنّه يحكم في كل شيء، ولا أحد يحكم فيه. لأنّه "من عرف فكر الرب فيعلّمه؟ "أمّا نحن فعندنا فكر المسيح" (1 كو 2: 10- 16).

إنّ الوحي، في المسيحية، لا يقوم على أنّ الله يكشف للإنسان حقائق يستحيل عليه إدراكها بالعقل، بقدر ما يقوم على أنّ الله يخرج من ذاته، وذلك بروحه القدّوس الذي هو ذات الله، ويلاقي الإنسان في صميم ذاته، حيث العقل والإرادة والحب. والإيمان الذي ينتج من ذلك هو شركة محبة في الروح. والمعرفة التي تنجم عن ذلك ليست معرفة عقلية بقدر ما هي معرفة كيانية تتخطّى كلّ عقل كما أنّ الحب يتخطّى كل إدراك.

ج) روح الرجاء

"المسيح فيكم رجاء المجد" (كو 1: 27). المسيحي الذي يصير بالإيمان إنسانًا جديدًا يتّحد بالمسيح. ولكن هذا الاتحاد يبقى اتحادًا أوّليًا يبعث الرجاء في الاتحاد الكامل. يذكّر بولس التسالونيكيين "بثبات رجائهم بربّنا يسوع المسيح" (1 تسا 1: 3). ويشكر الله "على أنّهم رجعوا إلى الله عن الأوثان ليعبدوا الله الحيّ الحقيقي، وينتظروا من السماوات ابنه، الذي أنهضه من بين الأموات، يسوع الذي ينقذنا من السخط الآتي" (1 تسا 1: 9، 10).

الرجاء حركة مزدوجة فيها يقين وفيها رغبة. فاليقين هو اللقاء الحاصل مع الرب، والرغبة هي في لقاء الرب لقاءً كاملاً. وكلا اليقين والرغبة هو عمل الروح القدس في الإنسان. فما أعطي لنا هو "باكورة الروح" (رو 8: 23): "إنّ الله هو الذي ختمنا وجعل عربون الروح في قلوبنا" (2 كو 1: 22)؛ "لقد خُتمتم بروح الموعد القدّوس الذي هو عربون ميراثنا" (أف 1: 13، 14). إنّ الروح الذي نلناه في المعمودية حاضر فينا حضور البزرة بالنسبة للشجرة (راجع مثل حبة الخردل: متى 13: 31، 32). الشجرة كلّها حاضرة في البزرة، والقوّة التي تنمي البزرة لتصبح شجرة حاضرة فيها بملئها، ولكن يلزمها وقت لتنمو وتصل إلى ما هي عليه. كذلك الروح حاضر فينا بملئه، وعمله فينا عمل دائم، ويقوم رجاؤنا على ترقّب بلوغه كماله فينا.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الرجاء لن يتحقق بدوننا. فالله صار إنسانًا مثلنا، وأرسل إلينا روحه الإلهي ليعمل فينا ومعنا على تأليه الكون. ولأنّنا نؤمن بحضور روح الله فينا ونؤمن بأنّه سيقود العالم إلى كماله، نسهم معه في هذا العمل الإلهي. ويقوم إسهامنا جوهريًا على أن نصغي إلى إلهاماته ونفسح له في المجال ليعمل فينا. وهذا ما يعنيه بولس بقوله: "لا تطفئوا الروح" (1 تسا 5: 19)، "لا تحزنوا روح الله القدّوس، الذي خُتمتم به لأجل يوم الفداء" (أف 4: 30).

اليقين بحضور الروح فينا ينشئ فينا الفرح والسلام ويحملنا على العمل الدائم مع الروح. والرجاء ينشئ فينا الحنين إلى تجلّي المسيح النهائي في المجد:

"إنّي لأحسب أنّ آلام هذا الدهر الحاضر لا يمكن أن تُقابَل بالمجد المزمع أن يتجلّى لنا. لذلك تتوقّع الخليقة، مترقّبة، تجلّي أبناء الله. لأنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل، لا عن رضى بل بسلطان الذي أخضعها، إنّما على رجاء أنّ الخليقة ستُعتَق، هي أيضاً، من عبودية الفساد إلى حريّة مجد أبناء الله. فنحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا تئنّ حتى الآن وتتمخّض. وليس هي فقط، بل نحن أيضاً، الذين لهن باكورة الروح، نحن أيضاً نئنّ في أنفسنا، منتظرين التبنّي، افتداء أجسادنا. لأنّا بالرجاء خلّصنا. على أنَ رجاء ما يُشاهَد ليس برجاء، لأنّ ما يشاهده المرء كيف يرجوه أيضاً؟ ولكن، إن كنا نرجو ما لا نشاهد، فبالصبر ننتظره" (رو 8: 18- 25).

د) روح الصلاة

الصلاة اتصال بالله واتّحاد به. ولكنّ الله نفسه، بروحه القدّوس، قد أتى إلينا وسكن فينا. فصلاتنا هي إذًا اتحاد بالروح القدس الساكن فينا: "الروح يعضد ضعفنا. لأنّا لا نعرف كيف نصلّي كما ينبغي، لكنّ الروح نفسه يشفع فينا بأنّات تفوق الوصف. والذي يفحص القلوب يعلم ما ابتغاء الروح، لأنّه بحسب الله يشفع في القديسين" (رو 8: 26، 27). دخولنا في الصلاة هو استجابة لصلاتنا، لأنّ دخولنا في الصلاة هو دخول في حوار الروح القدس مع الله، وبالتالي اشتراك في حياة الله نفسه.

فما يجب أن نطلبه إذًا في صلاتنا هو الروح القدس: "إذا كنتم، مع ما أنتم عليه من الشرّ، تعرفون أن تمنحوا العطايا الصالحة لأولادكم، فكم بالأحرى أبوكم السماوي يمنح الروح القدس لمن يسأله" (لو 11: 13). وعندما يسكن الروح القدس فينا يصير هو مبدأ حياتنا ومبدأ أعمالنا، فيتقدّس فينا اسم الله، ويأتي فينا ملكوته وتتمّ مشيئته. في بعض المخطوطات القديمة ترد عبارة "ليأتِ روحك"، عوضًا عن "ليأت ملكوتك"، في الصلاة الربّية. فالاتحاد بروح الله هو في الواقع الدخول في ملكوت الله. ومع الروح القدس الساكن فينا نعمل على تقديس اسم الله وإحلال ملكوته وتتميم مشيئته في الآخرين وفي العالم أجمع. لذلك يوصي بولس الأفسسيين: "صلّوا كلّ حين، في الروح، كلّ صلاة ودعاء. إسهروا لهذا في مواظبة لا تني" (أف 6: 18).

ه) روح القيامة

العذاب والموت شكٌّ للإنسان. ويسوع نفسه، في نزاعه في بستان الزيتون قد طلب أن تعبر عنه كأس العذاب والموت: "يا أبتاه! إنّ كلّ شيء ممكن لديك، فأَجِزْ عنّي هذه الكأس! ولكن ليس ما أريد أنا، بل ما تريد أنت" (مر 14: 36). عن صلاة يسوع هذه تقول الرسالة إلى العبرانيين: "إنه هو الذي، في أيّام بشريّته، قرّب تضرّعات وابتهالات، في صراخ شديد ودموع، إلى القادر أن يخلّصه من الموت، فاستجيب له بسبب ورعه.. وبلغ الكمال (عب 5: 7- 9). استجيب له، لا بأنّه أُنقذ من الموت، بل بأنّه أقيم من بين الأموات. وقيامته كانت بقدرة الروح: "إن المسيح بعد إذ أُميت، استردّ الحياة بالروح" (1 بط 3: 18).

وكما أقام الروح يسوع، هكذا سيقيمنا نحن أيضاً: "إنْ كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحي أيضاً أجسادكم المائتة، بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11). العذاب والموت لن يغيبا عن حياة الإنسان، ولكن عندما يحلّ في قلبه الروح القدس، يزول عنه الشك، ويظهر له الله إلهَ القيامة والحياة.

عندما طعن الجند جنب يسوع بحربة، "خرج من جنبه دم وماء" (يو 19: 34). الدم علامة الموت، والماء علامة الروح وعلامة الحياة: "إنْ عطش أحد، يقول يسوع، فليأتِ إليّ ويشرب. من آمن بي فستجري من جوفه، كما قال الكتاب، أنهار ماء حيّ". ويضيف يوحنا: "قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. فالروح لم يكن بعد قد أعطي، لأنّ يسوع لم يكن بعد قد مُجّد" (يو 7: 37- 39).

إنّ منح الروح القدس مرتبط بتمجيد يسوع، أي بقيامته وصعوده إلى السماء ودخوله في مجد الآب. لكنّ يسوع لم يتمجّد بالروح إلاّ لأنّه قرّب نفسه للموت بالروح: "إنّ المسيح، بروح أزليّ، تقول الرسالة إلى العبرانيين، قد قرّب لله نفسه بلا عيب" (عب 9: 14). وهذا الروح هو روح الله، روح المحبة. لقد غيّر المسيح معنى الموت عندما ملأ الموت بالمحبة، وأوصى تلاميذه أن يسلكوا كما سلك هو: "هذه وصيّتي: أن يحبّ بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا. ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل الحياة عن أصدقائه. فأنتم أصدقائنا إذا صنعتم ما أنا موصيكم به" (يو 15: 12، 13). المسيحي، بالمعمودية، "يولد من الماء والروح" (يو 3: 5) لحياة جديدة هي حياة الله، أي حياة المحبة، "لأنّ الله محبة" (1 يو 4: 8، 16). وهذا الروح، روح الله وروح المسيح وروح المحبة، الذي يرافق المسيحي منذ ولادته الجديدة ويعطي معنى لحياته، يرافقه أيضاً في وسط عذابه وموته ويضق عليهما معنى.

الإنسان خلق ليحيا في علاقة، وبقدر ما تكتمل علاقته بالله وبالآخرين، بقدر ذلك يصير إنسانًا. لذلك فإنّ الموت، الذي هو العزلة القصوى، يبدو وكأنّه يفرغ الإنسان من ذاته. فبدون الله وبدون روح القيامة والحياة، مصير الإنسان الفراغ واليأس. في لوعة هذا الفراغ وعمق هذا اليأس يتجلّى الروح القدس، المعزّي الصالح، فيملأ الفراغ من ملء الله ويلاشي اليأس في خضمّ محبة الله. وإذّاك يتحوّل موت الإنسان إلى شركة حياة مع الله. هكذا مجّد الله يسوع بالروح القدس، وهكذا سيمجّدنا نحن أيضاً معه: "إن نحن متنا مع المسيح، فسنحيا معه" (2 تي 2: 11)، "إن كنّا نتألّم معه، فلكي نتمجّد أيضاً معه" (رو 8: 17).

و) روح الفرح والسلام

في هذا الجوّ المفعم بالمحبة والإيمان والرجاء والصلاة والقيامة، لا يعود مكان للحزن في قلب المسيحي. الفرح هو العلامة التي لا تخطئ على وجود الروح القدس في قلب المسيحي: "إنّ ثمر الروح هو المحبة والفرح والسلام" (غلا 5: 22)؛ "إنّ ملكوت الله ليس أكلاً ولا شربًا، بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس" (رو 14: 17). إنّ حضور الروح يشعّ بالفرح والسلام: "أمّا التلاميذ فكانوا ممتلئين من الفرح والروح القدس" (أع 13: 52). وبعد أن جلد رؤساء الكهنة الرسل وأطلقوهم، يقول سفر أعمال الرسل: "أمّا هم فخرجوا من وجه المحفل، فرحين بأنهم حُسبوا أهلاً لأن يهانوا من أجل اسم يسوع" (أع 5: 41).

لذلك، في وسط المضايق والعذابات، يفيض بولس فرحًا: "إنّي أفيض فرحًا في كل ضيقنا" (2 كو 7: 4)؛ "نفتخر حتى في الشدائد لعلمنا أن الشدّة تنشئ الصبر، والصبر يُنشئ الفضيلة المختبرة، والفضيلة المختبرة تنشئ الرجاء. والرجاء لا يخزي، لأنّ محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه" (رو 5: 3- 5). وكذلك يوصي بطرس الرسول المسيحيين قائلا: "إذا ما أهنتم من أجل اسم المسيح فطوبى لكم. لأنّ روح المجد، الذي هو روح الله، يستقرّ عليكم" (1 بط 4: 14).

الفرح والسلام الداخلي علامة المسيحي المميّزة. ولكنّ الفرح والسلام لا يمكن المسيحي أن يحصل عليهما بقوّته الذاتية. فكا أنّ النور هو إشعاع من الشمس، كذلك الفرح والسلام هما إشعاع من الروح الساكن في قلب المسيحي. لذلك يميّز المسيح بين السلام الذي يعطيه العالم والسلام الذي يعطيه هو، وبين فرح العالم وفرح تلاميذه:

"السلام أستودعكم، سلامي أعطيكم؛ لست أعطيكموه كما يعطيه العالم. لا تضطرب قلوبكم ولا ترتعد! (يو 14: 27)، "إنّي منطلق إلى من أرسلني.. ولكن، لأنّي قلت لكم ذلك، ملأت الكآبة قلوبكم.. الحقّ الحقّ أقول لكم: إنَّكم ستبكون وتنوحون، والعالم سيفرح. إنَّكم ستحزنون، ولكنّ حزنكم سينقلب فرحًا. المرأة، إذا ما حان وضعها، مخزن، لأنّ ساعتها قد أتت، ولكنّها متى وضعت الطفل لا تعود تتذكّر شدّتها، فرحة بأن إنسانًا ولد في العالم. وأنتم أيضاً، فإنّكم الآن في حزن، ولكنّي سأراكم من جديد، فتفرح قلوبكم، وفرحكم هذا، لا يقدر أحدٌ أنْ ينتزعه منكم" (يو 16: 5- 7، 20، 22).

لمّا قام يسوع ورآه التلاميذ من جديد، يقول يوحنا: "ففرح التلاميذ إذ أبصروا الرب" (يو 20: 20). إنّ قيامة المسيح وحضوره فيهم بروحه القدوس هما أساس فرح التلاميذ. المسيحي لا يمكنه أن يفرح فرحًا حقيقيًا دائمًا إلاّ بالرب: "إفرحوا في الرب على الدوام، وأقول أيضاً افرحوا" (في 3: 4). فرحه هو بقوّة الرب وبحضور الروح القدس، روح الرب، معه وفيه.

هكذا ظهر لنا الروح القدس في الكتاب المقدس. وكما لاحظنا، لا نجد الكتاب المقدس تحليلاً نظرياً ولا تحديداً عقائدياً لكيان الروح القدس. إنّ ما نجده هو حصيلة خبرة شعب الله، في العهد القديم وفي العهد الجديد، لحضور روح الله وعمله في الكون وفي الإنسان، ولملء حضوره وعمله في شخص يسوع المسيح ومن ثمَّ في الرسل والكنيسة. فالروح القدس هو روح الله الذي يملأنا من حياته دون أن نستطيع إدراك سرّه. إنّه "الرب المحيي"، إنه حيّ وفعّال، وإنْ لم نَقْوَ على الإحاطة به. إنّه كالريح، حسب تشبيه المسيح لنقودموس: "الريح تهبّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، بيد أنّك لا تعرف من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب. فهكذا يكون الأمر ممّن يولد من الروح" (يو 3: 8).

الروح القديس هو حضور الله فينا، يقودنا إلى ملء الله، ويقود الخليقة كلّها إلى تجلّي أبناء الله. ويشمل عمل الروح القدس الخليقة في كلّ أبعادها المادية والروحية، الحاضرة والمستقبلة، الأرضية والسماوية. فالروح القدس يحي التاريخ كلّه ويلقي ملء نوره على تلمّس الناس حياةً أفضل وعلى سعيهم نحو الحق والعدالة والسلام وجميع القيم الحقة، في انتظار ملكوت ليس من هذا العالم. فالملكوت يأتي في الحياة والتاريخ عندما يملأ روح الله الحياة والتاريخ.

الروح القدس هو روح الله نفسه، والعمل الذي يُنسَب إليه في الكتاب المقدّس لا يمكن أن يُنسَب إلاّ إلى الله نفسه. لذلك أكّد آباء الكنيسة والمجامع المسكونية واللاهوتيون على مدى القرون ألوهيّة الروح القدس، وأعلنوا أنّ الروح القدس هو أحد أقانيم الثالوث الأقدس.


  رد مع اقتباس